>> صفحات
خاصة >> رمضان 2011 >>
قواعد الرزق
أكد الله سبحانه هذا
المبدأ، وأقر هذه القاعدة في كتابه، فلا رازق سواه، كما أنه لا خالق غيره، خلق ورزق
دون عناء ولا كلفة ولا مشقة، فلو سأله الخلق جمعيا فأعطاهم لم ينقص ذلك من ملكه
شيئًا، كما قال في الحديث القدسي الجليل الذي رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن
رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ((يا
عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا، يا عبادي كلكم
ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني
أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون
بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن
تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم
وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن
أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي
شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت
كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا
عبادي إنما هي أعمالكم: أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله عز
وجل، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)).
فبين أن جميع الخلائق إذا سألوا وهم في مكان واحد، وزمان واحد، فأعطى كل إنسان منهم
مسألته لم ينقصه ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخيط، وهي الإبرة، إذا غمس في البحر.
ولفظ النقص هنا كلفظ النقص في حديث موسى والخضر الذي في الصحيحين، من حديث ابن عباس،
عن أبي بن كعب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه: ((أن الخضر قال لموسى لما وقع
عصفور على قارب السفينة فنقر في البحر، فقال: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم
الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر)).
ومن المعلوم أن نفس علم الله القائم بنفسه لا يزول منه شيء بتعلم العباد، وإنما
المقصود أن نسبة علمي وعلمك إلى علم الله كنسبة ما علق بمنقار العصفور إلى البحر.
ومما يحقق هذا أن الحديث رُوِي عند الترمذي (وفيه ضعف) بلفظ: ((لو أن أولكم وآخركم،
وإنسكم وجنكم، ورطبكم ويابسكم سألوني حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما
سألوني ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر فغمس فيه إبرة ثم رفعها
إليه، ذلك بأني جواد ماجد أفعل ما أريد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء
إذا أردته أن أقول له كن فيكون)). فذكر سبحانه أن عطاءه كلام، وعذابه كلام، يدل على
أنه هو أراد بقوله: "من ملكي"، "ومما عندي"، أي من مقدوري، فيكون هذا في القدرة
كحديث الخضر في العلم، والله أعلم.
ومن آيات ربنا سبحانه التي تقرر هذه القاعدة قوله -جل ذكره-: {وَمَا
خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ
وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ
المَتِينُ} [الذاريات: 56 – 58].
والْحَظْ اسم الله الرزاق في هذا السياق، وما جاء به في ختام الآية الثانية،
فالرزاق من أبنية المبالغة، وهو يعني الذي يرزق مرة بعد مرة، الرزاق لجميع عباده،
وقوله (ذو القوة المتين) يدل على أنه لا يعجزه شيء من هذا العطاء والرزق، فيعطى
ويخلق بالقدرة المعجزة التي لا نهاية لها!
وقال ربنا: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ}
[ص: 54].
فما على الإنسان إلا أن يسعى في الطلب ويحسن التوكل على الله، والله تعالى يفيض
عليه من رزقه، وقد سهل النبي هذا الأمر فقال: ((لو أنكم توكلتم على الله حق توكله
لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا)). وهو ظاهر في أن التوكل يكون مع
السعي؛ لأنه ذكر للطير عملا وهو الذهاب صباحًا في طلب الرزق، وهي فارغة البطون،
والرجوع وهي ممتلئة البطون.
وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ
وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ * مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا
وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ *
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ
غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 1- 3].
وقال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ
مُّبِينٍ} [سبأ: 24].
وقال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ
وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ
المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ
فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [يونس: 31].
وتحدى الله تعالى بقضية الرزق وأنه لا يملكه سواه فقال جل ذكره: {أَمَّنْ
هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ
وَنُفُورٍ} [الملك: 21].
وإذا كان هذا مقررًا، فإنه ينبغي للعباد أن لا يهتموا بهذا الأمر؛ لأنه مكفول من
الله تعالى لهم، وما عليهم إلا أن يحسنوا التوكل على الله والإيمان به ليبارك الله
تعالى لهم في الرزق الذي تكفل به؛ قال تعالى: {اللًّهُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن
شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشرِكُونَ} [الروم:40].
وقد ذكر الله تعالى قضية الرزق مقرونة بالخلق، ومعلوم أن الله قد خلق كل ما هو كائن
إلى يوم القيامة من الإنس قبل خلق آدم، وأخذ عليهم عهد الإيمان، وسبق ذلك في علمه،
فقرن الرزق به تطمينا للعباد، حتى لا يهتموا برزق غد، وليعلموا أن الذي خلق هو الذي
رزق!
(من كتاب: قضية الرزق-
د. محمد عمارة)