امير اهل الحديث
الامام الجليل والمحدث العظيم محمد بن اسماعيل البخاري امير اهل الحديث وصاحب اصح
كتاب بعد كتاب الله تعالى، يقول البخاري: صنفت الصحيح في ست عشرة سنة وجعلته حجة
فيما بيني وبين الله تعالى.
ولم يشهد تاريخ الاسلام مثله في قوة الحفظ ودقة الرواية والصبر على البحث مع قلة
الامكانات، حتى اصبح منارة في الحديث وفاق تلامذته وشيوخه على السواء.
ويقول عنه احد العلماء: لا اعلم اني رايت مثله كانه لم يخلق الا للحديث.
نسبه ومولده
هو ابو عبد الله محمد بن اسماعيل بن ابراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري وكلمة
بردزبه تعني بلغة بخارى الزراع
اسلم جده المغيرة على يدي اليمان الجعفي والي بخارى وكان مجوسيا وطلب والده اسماعيل
بن ابراهيم العلم والتقى بعدد من كبار العلماء، وروى اسحاق بن احمد بن خلف انه سمع
البخاري يقول سمع ابي من مالك بن انس وراى حماد بن زيد وصافح ابن المبارك بكلتا
يديه.
ولد ابو عبد الله في يوم الجمعة الرابع من شوال سنة اربع وتسعين.
ويروى ان محمد بن اسماعيل عمي في صغره فرات والدته في المنام ابراهيم الخليل عليه
السلام فقال لها يا هذه قد رد الله على ابنك بصره لكثرة بكائك او كثرة دعائك شك
البلخي فاصبحت وقد رد الله عليه بصره.
قوة حفظه وذاكرته
ووهب الله للبخاري منذ طفولته قوة في الذكاء والحفظ من خلال ذاكرة قوية تحدى بها
اقوى الاختبارات التي تعرض لها في عدة مواقف.
يقول محمد بن ابي حاتم: قلت لابي عبد الله: كيف كان بدء امرك قال الهمت حفظ الحديث
وانا في الكتاب فقلت كم كان سنك فقال عشر سنين او اقل ثم خرجت من الكتاب بعد العشر
فجعلت اختلف الى الداخلي وغيره فقال يوما فيما كان يقرا للناس سفيان عن ابي الزبير
عن ابراهيم، فقلت له: ان ابا الزبير لم يرو عن ابراهيم فانتهرني فقلت له ارجع الى
الاصل، فدخل فنظر فيه ثم خرج فقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلت:هو الزبير بن عدي عن
ابراهيم.
فاخذ القلم مني واحكم( اصلح) كتابه وقال: صدقت.
فقيل للبخاري ابن كم كنت حين رددت عليه قال ابن احدى عشرة سنة.
ولما بلغ البخاري ست عشرة سنة كان قد حفظ كتب ابن المبارك ووكيع.
وقال محمد بن ابي حاتم الوراق سمعت حاشد بن اسماعيل واخر يقولان كان ابو عبد الله
البخاري يختلف معنا الى مشايخ البصرة وهو غلام فلا يكتب حتى اتى على ذلك ايام فكنا
نقول له انك تختلف معنا ولا تكتب فما تصنع فقال لنا يوما بعد ستة عشر يوما انكما قد
اكثرتما على والححتما فاعرضا على ما كتبتما فاخرجنا اليه ما كان عندنا فزاد على
خمسة عشر الف حديث فقراها كلها عن ظهر قلب حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه ثم قال
اترون اني اختلف هدرا واضيع ايامي فعرفنا انه لا يتقدمه احد.
وقال ابن عدي حدثني محمد بن احمد القومسي سمعت محمد ابن خميرويه سمعت محمد بن
اسماعيل يقول احفظ مائة الف حديث صحيح واحفظ مائتي الف حديث غير صحيح
قال وسمعت ابا بكر الكلواذاني يقول ما رايت مثل محمد بن اسماعيل كان ياخذ الكتاب من
العلماء فيطلع عليه اطلاعة فيحفظ عامة اطراف الاحاديث بمرة.
طلبه للحديث
رحل البخاري بين عدة بلدان طلبا للحديث الشريف ولينهل من كبار علماء وشيوخ عصره في
بخارى وغيرها.
وروي عن البخاري انه كان يقول قبل موته: كتبت عن الف وثمانين رجلا ليس فيهم الا
صاحب حديث كانوا يقولون الايمان قول وعمل يزيد وينقص.
ونعود الى البخاري في رحلته في طلب العلم ونبداها من مسقط راسه بخارى فقد سمع بها
من الجعفي المسندي ومحمد بن سلام البيكندي وجماعة ليسوا من كبار شيوخه ثم رحل الى
بلخ وسمع هناك من مكبن بن ابراهيم وهو من كبار شيوخه وسمع بمرو من عبدان بن عثمان
وعلي بن الحسن بن شقيق وصدقة بن الفضل. وسمع بنيسابور من يحيى بن يحيى وجماعة من
العلماء وبالري من ابراهيم بن موسى.
وفي اواخر سنة 210هـ قدم البخاري العراق وتنقل بين مدنها ليسمع من شيوخها وعلمائها.
وقال البخاري دخلت بغداد اخر ثمان مرات في كل ذلك اجالس احمد بن حنبل فقال لي في
اخر ما ودعته يا ابا عبد الله تدع العلم والناس وتصير الى خراسان قال فانا الان
اذكر قوله.
ثم رحل الى مكة وسمع هناك من ابي عبد الرحمن المقرئ وخلاد بن يحي وحسان بن حسان
البصري وابي الوليد احمد بن محمد الازرقي والحميدي.
وسمع بالمدينة من عبد العزيز الاويسي وايوب بن سليمان بن بلال واسماعيل بن ابي اويس.
واكمل رحلته في العالم الاسلامي انذاك فذهب الى مصر ثم ذهب الى الشام وسمع من ابي
اليمان وادم بن ابي اياس وعلي بن عياش وبشر بن شعيب وقد سمع من ابي المغيرة عبد
القدوس واحمد بن خالد الوهبي ومحمد بن يوسف الفريابي وابي مسهر واخرين.
مؤلفات البخاري
عد العلماء كتاب الجامع الصحيح المعروف بـصحيح البخاري اصح كتاب بعد كتاب الله،
ويقول عنه علماء الحديث هو اعلى الكتب الستة سندا الى النبي صلى الله عليه وسلم في
شيء كثير من الاحاديث وذلك لان ابا عبد الله اسن الجماعة واقدمهم لقيا للكبار اخذ
عن جماعة يروي الائمة الخمسة عنهم
ويقول في قصة تاليفه الجامع الصحيح : كنت عند اسحاق بن راهويه فقال بعض اصحابنا لو
جمعتم كتابا مختصرا لسنن النبي فوقع ذلك في قلبي فاخذت في جمع هذا الكتاب
ويقول في بعض الروايات:
ـ اخرجت هذا الكتاب من زهاء ست مائة الف حديث.
ـ ما وضعت في كتابي الصحيح حديثا الا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين.
ـ ما ادخلت في هذا الكتاب الا ما صح وتركت من الصحاح كي لا يطول الكتاب.
ويروي البخاري انه بدا التاليف وعمره 18 سنة فيقول:
في ثمان عشرة جعلت اصنف قضايا الصحابة والتابعين واقاويلهم وذلك ايام عبيد الله بن
موسى، وصنفت كتاب التاريخ اذ ذاك عند قبر رسول الله في الليالي المقمرة وقل اسم في
التاريخ الا وله قصة الا اني كرهت تطويل الكتاب، وكنت اختلف الى الفقهاء بمرو وانا
صبي فاذا جئت استحي ان اسلم عليهم فقال لي مؤدب من اهلها كم كتبت اليوم فقلت: اثنين
واردت بذلك حديثين فضحك من حضر المجلس فقال شيخ منهم لا تضحكوا فلعله يضحك منكم
يوما
وقال ابو جعفر محمد بن ابي حاتم قلت لابي عبد الله تحفظ جميع ما ادخلت في المصنف
فقال لا يخفى علي جميع ما فيه، وسمعته يقول صنفت جميع كتبي ثلاث مرات.
دقته واجتهاده
ظل البخاري ستة عشر عاما يجمع الاحاديث الصحاح في دقة متناهية، وعمل دؤوب، وصبر على
البحث وتحري الصواب قلما توافرت لباحث قبله او بعده حتى اليوم، وكان بعد كل هذا لا
يدون الحديث الا بعد ان يغتسل ويصلي ركعتين.
يروي احد تلامذته انه بات عنده ذات ليلة فاحصى عليه انه قام واسرج يستذكر اشياء
يعلقها في ليلة ثمان عشرة مرة.
وقال محمد بن ابي حاتم الوراق كان ابو عبد الله اذا كنت معه في سفر يجمعنا بيت واحد
الا في القيظ احيانا فكنت اراه يقوم في ليلة واحدة خمس عشرة مرة الى عشرين مرة في
كل ذلك ياخذ القداحة فيوري نارا ويسرج ثم يخرج احاديث فيعلم عليها.
وروي عن البخاري انه قال: لم تكن كتابتي للحديث كما كتب هؤلاء كنت اذا كتبت عن رجل
سالته عن اسمه وكنيته ونسبته وحمله الحديث ان كان الرجل فهما، فان لم يكن سالته ان
يخرج الي اصله ونسخته فاما الاخرون لا يبالون ما يكتبون وكيف يكتبون.
وكان العباس الدوري يقول: ما رايت احدا يحسن طلب الحديث مثل محمد بن اسماعيل كان لا
يدع اصلا ولا فرعا الا قلعه ثم قال لنا لا تدعوا من كلامه شيئا الا كتبتموه.
تفوقه على اقرانه في الحديث
ظهر نبوغ البخاري مبكرا فتفوق على اقرانه، وصاروا يتتلمذون على يديه، ويحتفون به في
البلدان.
فقد روي ان اهل المعرفة من البصريين يعدون خلفه في طلب الحديث وهو شاب حتى يغلبوه
على نفسه ويجلسوه في بعض الطريق فيجتمع عليه الوف اكثرهم ممن يكتب عنه وكان شابا لم
يخرج وجهه.
وروي عن يوسف بن موسى المروروذي يقول كنت بالبصرة في جامعها اذ سمعت مناديا ينادي
يا اهل العلم قد قدم محمد بن اسماعيل البخاري فقاموا في طلبه وكنت معهم فراينا رجلا
شابا يصلي خلف الاسطوانة فلما فرغ من الصلاة احدقوا به وسالوه ان يعقد لهم مجلس
الاملاء فاجابهم فلما كان الغد اجتمع قريب من كذا كذ الف فجلس للاملاء وقال يا اهل
البصرة انا شاب وقد سالتموني ان احدثكم وساحدثكم باحاديث عن اهل بلدكم تستفيدون
منها.
وقال ابو احمد عبد الله بن عدي الحافظ سمعت عدة مشايخ يحكون ان محمد بن اسماعيل
البخاري قدم بغداد فسمع به اصحاب الحديث فاجتمعوا وعمدوا الى مائة حديث فقلبوا
متونها واسانيدها وجعلوا متن هذا لاسناد هذا و اسناد هذا لمتن هذا ودفعوا الى كل
واحد عشرة احاديث ليلقوها على البخاري في المجلس فاجتمع الناس وانتدب احدهم فسال
البخاري عن حديث من عشرته فقال لا اعرفه وساله عن اخر فقال لا اعرفه وكذلك حتى فرغ
من عشرته فكان الفقهاء يلتفت بعضهم الى بعض ويقولون الرجل فهم. ومن كان لا يدري قضى
على البخاري بالعجز ثم انتدب اخر ففعل كما فعل الاول والبخاري يقول لا اعرفه ثم
الثالث والى تمام العشرة انفس وهو لا يزيدهم على لا اعرفه. فلما علم انهم قد فرغوا
التفت الى الاول منهم فقال اما حديثك الاول فكذا والثاني كذا والثالث كذا الى
العشرة فرد كل متن الى اسناده وفعل بالاخرين مثل ذلك فاقر له الناس بالحفظ فكان ابن
صاعد اذا ذكره يقول الكبش النطاح.
وروي عن ابي الازهر قال كان بسمرقند اربعمائة ممن يطلبون الحديث فاجتمعوا سبعة ايام
واحبوا مغالطة البخاري فادخلوا اسناد الشام في اسناد العراق واسناد اليمن في اسناد
الحرمين فما تعلقوا منه بسقطة لا في الاسناد ولا في المتن.
وقال احيد بن ابي جعفر والي بخارى قال محمد بن اسماعيل يوما رب حديث سمعته بالبصرة
كتبته بالشام ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر فقلت له: يا ابا عبد الله بكماله
قال: فسكت.
من كلمات البخاري
[لا اعلم شيئا يحتاج اليه الا وهو في الكتاب والسنة]
[ما جلست للحديث حتى عرفت الصحيح من السقيم وحتى نظرت في عامة كتب الراي وحتى دخلت
البصرة خمس مرات او نحوها فما تركت بها حديثا صحيحا الا كتبته الا ما لم يظهر لي]
[ما اردت ان اتكلم بكلام فيه ذكر الدنيا الا بدات بحمد الله والثناء عليه]
مواقف من حياة البخاري
وقال بكر بن منير سمعت ابا عبد الله البخاري يقول ارجو ان القى الله ولا
يحاسبني اني اغتبت احدا قلت صدق رحمه الله ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم
ورعه في الكلام في الناس وانصافه فيمن يضعفه فانه اكثر ما يقول: منكر الحديث، سكتوا
عنه، فيه نظر ونحو هذا. وقل ان يقول فلان كذاب او كان يضع الحديث حتى انه قال اذا
قلت فلان في حديثه نظر فهو متهم واه وهذا معنى قوله لا يحاسبني الله اني اغتبت احدا
وهذا هو والله غاية الورع.
يقول محمد بن ابي حاتم: كان ابو عبد الله يصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة وكان لا
يوقظني في كل ما يقوم فقلت اراك تحمل على نفسك ولم توقظني قال انت شاب ولا احب ان
افسد عليك نومك.
يروي البخاري فيقول كنت بنيسابور اجلس في الجامع فذهب عمرو بن زرارة واسحاق بن
راهويه الى يعقوب بن عبد الله والي نيسابور فاخبروه بمكاني فاعتذر اليهم وقال
مذهبنا اذا رفع الينا غريب لم نعرفه حبسناه حتى يظهر لنا امره فقال له بعضهم: بلغني
انه قال لك لا تحسن تصلي فكيف تجلس فقال لو قيل لي شيء من هذا ما كنت اقوم من ذلك
المجلس حتى اروي عشرة الاف حديث في الصلاة خاصة.
وذات يوم ناظر ابو بكر البخاري في احاديث سفيان فعرفها كلها ثم اقبل محمد عليه
فاغرب عليه مائتي حديث فكان ابو بكر بعد ذلك يقول ذاك الفتى البازل والبازل الجمل
المسن الا انه يريد هاهنا البصير بالعلم الشجاع.
قال محمد بن ابي حاتم سمعت البخاري يقول دخلت بلخ فسالني اصحاب الحديث ان املي
عليهم لكل من كتبت عنه حديثا فامليت الف حديث لالف رجل ممن كتبت عنهم.
قال ابو جعفر سمعت ابا عمر سليم بن مجاهد يقول كنت عند محمد بن سلام البيكتدي فقال
لو جئت قبل لرايت صبيا يحفظ سبعين الف حديث قال فخرجت في طلبه حتى لحقته قال انت
الذي يقول اني احفظ سبعين الف حديث قال نعم واكثر ولا اجيئك بحديث من الصحابة
والتابعين الا عرفتك مولد اكثرهم ووفاتهم ومساكنهم ولست اروي حديثا من حديث الصحابة
او التابعين الا ولي من ذلك اصل احفظه حفظا عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
قال محمد بن يعقوب بن الاخرم: سمعت اصحابنا يقولون لما قدم البخاري نيسابور استقبله
اربعة الاف رجل ركبانا على الخيل سوى من ركب بغلا او حمارا وسوى الرجالة.
ورعه
· قال محمد بن ابي حاتم ركبنا يوما الى الرمي، فجعلنا نرمي واصاب سهم ابي عبد الله
البخاري وتد القنطرة الذي على نهر ورادة فانشق الوتد فلما راه ابو عبد الله نزل عن
دابته فاخرج السهم من الوتد وترك الرمي وقال لنا ارجعوا ورجعنا معه الى المنزل.
فقال لي يا ابا جعفر لي اليك حاجة مهمة قالها وهو يتنفس الصعداء، وقال لمن معنا
اذهبوا مع ابي جعفر حتى تعينوه على ما سالته فقلت اية حاجة هي. قال لي: تضمن قضاءها؟
قلت نعم على الراس والعين. قال: ينبغي ان تصير الى صاحب القنطرة فتقول له انا قد
اخللنا بالوتد فنحب ان تاذن لنا في اقامة بدله او تاخذ ثمنه وتجعلنا في حل مما كان
منا. وكان صاحب القنطرة حميد بن الاخضر الفربري. فقال لي ابلغ ابا عبد الله السلام
وقل له انت في حل مما كان منك وجميع ملكي لك الفداء وان قلت نفسي اكون قد كذبت، غير
اني لم اكن احب ان تحتشمني في وتد او في ملكي فابلغته رسالته فتهلل وجهه واستنار
واظهر سرورا وقرا في ذلك اليوم على الغرباء نحوا من خمسمائة حديث وتصدق بثلاث مائة
درهم.
· وقال بن ابي حاتم ورايته استلقى على قفاه يوما ونحن بفربر في تصنيفه كتاب التفسير
واتعب نفسه ذلك اليوم في كثرة اخراج الحديث فقلت له اني اراك تقول اني ما اثبت شيئا
بغير علم قط منذ عقلت فما الفائدة في الاستلقاء قال اتعبنا انفسنا اليوم وهذا ثغر
من الثغور خشيت ان يحدث حدث من امر العد فاحببت ان استريح واخذ اهبة فان فاجئنا
العدو كان بنا حراك.
· وضيفه بعض اصحابه في بستان له وضيفنا معه فلما جلسنا اعجب صاحب البستان بستانه
وذلك انه كان عمل مجالس فيه واجرى الماء في انهاره فقال له يا ابا عبد الله كيف ترى
فقال هذه الحياة الدنيا.
· وقال احمد بن حفص: دخلت على ابي الحسن يعني اسماعيل والد ابي عبد الله عند موته
فقال لا اعلم من مالي درهما من حرام ولا درهما من شبهة قال احمد فتصاغرت الي نفسي
عند ذلك ثم قال ابو عبد الله اصدق ما يكون الرجل عند الموت.
وكان الحسين بن محمد السمرقندي يقول كان محمد بن اسماعيل مخصوصا بثلاث خصال مع ما
كان فيه من الخصال المحمودة كان قليل الكلام وكان لا يطمع فيما عند الناس وكان لا
يشتغل بامور الناس كل شغله كان في العلم.
عمله بالتجارة
وعمل البخاري بالتجارة فكان مثالا للتاجر الصدوق الذي لا يغش ولا ينقض نيته مهما
كانت المغريات.
روي انه حملت الى البخاري بضاعة انفذها اليه ابنه احمد فاجتمع بعض التجار اليه
فطلبوها بربح خمسة الاف درهم فقال انصرفوا الليلة فجاءه من الغد تجار اخرون فطلبوا
منه البضاعة بربح عشرة الاف فقال اني نويت بيعها للذين اتوا البارحة.
ثناء الائمة عليه
قال ابو اسحاق السرماري: من اراد ان ينظر الى فقيه بحقه وصدقه فلينظر الى محمد بن
اسماعيل.
قال ابو جعفر سمعت يحيى بن جعفر يقول لو قدرت ان ازيد في عمر محمد بن اسماعيل من
عمري لفعلت فان موتي يكون موت رجل واحد وموته ذهاب العلم.
وكان نعيم بن حماد يقول: محمد بن اسماعيل فقيه هذه الامة.
قال مصعب الزهري محمد بن اسماعيل افقه عندنا وابصر بالحديث.
وروي عن اسحاق بن راهويه انه كان يقول اكتبوا عن هذا الشاب يعني البخاري فلو كان في
زمن الحسن لاحتاج اليه الناس لمعرفته بالحديث وفقهه.
وكان علي بن حجر يقول اخرجت خراسان ثلاثة ابو زرعة ومحمد بن اسماعيل وعبد الله بن
عبد الرحمن الدارمي ومحمد عندي ابصرهم واعلمهم وافقههم.
وقال محمد بن ابي حاتم سمعت ابراهيم بن خالد المروزي يقول رايت ابا عمار الحسين بن
حريث يثني على ابي عبد الله البخاري ويقول لا اعلم اني رايت مثله كانه لم يخلق الا
للحديث.
وقال محمد حدثني حاتم بن مالك الوراق قال سمعت علماء مكة يقولون محمد بن اسماعيل
امامنا وفقيهنا وفقيه خراسان.
وقال ابو الطيب حاتم بن منصور الكسي يقول محمد بن اسماعيل اية من ايات الله في بصره
ونفاذه من العلم.
وقال سليم بن مجاهد يقول لو ان وكيعا وابن عيينة وابن المبارك كانوا في الاحياء
لاحتاجوا الى محمد بن اسماعيل.
وروي عن قتيبة بن سعيد انه قال لو كان محمد في الصحابة لكان اية. نظرت في الحديث
ونظرت في الراي وجالست الفقهاء والزهاد والعباد ما رايت منذ عقلت مثل محمد بن
اسماعيل.
وقال الامام احمد بن حنبل: لم يجئنا من خراسان مثل محمد بن اسماعيل.
وقال ابو عبد الله الحاكم: محمد بن اسماعيل البخاري امام اهل الحديث.
قال ابو بكر محمد بن اسحاق بن خزيمة: ما رايت تحت اديم السماء اعلم بحديث رسول الله
واحفظ له من محمد بن اسماعيل.
قال محمد بن حمدون بن رستم سمعت مسلم بن الحجاج وجاء الى البخاري فقال دعني اقبل
رجليك يا استاذ الاستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله.
وقال سعيد بن جعفر: سمعت العلماء بالبصرة يقولون ما في الدنيا مثل محمد بن اسماعيل
في المعرفة والصلاح.
من كرم البخاري وسماحته
قال محمد بن ابي حاتم كانت له قطعة ارض يؤجرها كل سنة بسبع مائة درهم فكان ذلك
المؤجر ربما حمل منها الى ابي عبد الله قثاة او قثاتين لان ابا عبد الله كان معجبا
بالقثاء النضيج وكان يؤثره على البطيخ احيانا فكان يهب للرجل مائة درهم كل سنة
لحمله القثاء اليه احيانا.
قال وسمعته يقول كنت استغل كل شهر خمس مائة درهم فانفقت كل ذلك في طلب العلم فقلت
كم بين من ينفق على هذا الوجه وبين من كان خلوا من المال فجمع وكسب بالعلم حتى
اجتمع له فقال ابو عبد الله: ما عند الله خير وابقى (الشورى:36)
وكان يتصدق بالكثير ياخذ بيده صاحب الحاجة من اهل الحديث فيناوله ما بين العشرين
الى الثلاثين واقل واكثر من غير ان يشعر بذلك احد وكان لا يفارقه كيسه.
ويقول عبد الله بن محمد الصارفي: كنت عند ابي عبد الله البخاري في منزله فجاءته
جارية وارادت دخول المنزل فعثرت على محبرة بين يديه فقال لها: كيف تمشين؟ قالت اذا
لم يكن طريق كيف امشي فبسط يديه وقال لها اذهبي فقد اعتقتك. قال فقيل له فيما بعد
يا ابا عبد الله اغضبتك الجارية قال ان كانت اغضبتني فاني ارضيت نفسي بما فعلت.
محنة البخاري
تعرض البخاري للامتحان والابتلاء، وكثيرا ما تعرض العلماء الصادقون للمحن فصبروا
على ما اوذوا في سبيل الله، ولقد حسد البعض البخاري لما له من مكانة عند العلماء
وطلاب العلم وجماهير المسلمين في كل البلاد الاسلامية، فاثاروا حوله الشائعات بانه
يقول بخلق القران، ولذلك قصة يرويها ابو احمد بن عدي فيقول: ذكر لي جماعة من
المشايخ ان محمد بن اسماعيل البخاري لما ورد نيسابور اجتمع الناس عليه فحسده بعض من
كان في ذلك الوقت من مشايخ نيسابور لما راوا اقبال الناس اليه واجتماعهم عليه. فقال
لاصحاب الحديث: ان محمد بن اسماعيل يقول اللفظ بالقران مخلوق فامتحنوه في المجلس
فلما حضر الناس مجلس البخاري قام اليه رجل فقال يا ابا عبد الله ما تقول في اللفظ
بالقران مخلوق هو ام غير مخلوق فاعرض عنه البخاري ولم يجبه، فقال الرجل يا ابا عبد
الله فاعاد عليه القول فاعرض عنه، ثم قال في الثالثة فالتفت اليه البخاري وقال
القران كلام الله غير مخلوق وافعال العباد مخلوقة والامتحان بدعة فشغب الرجل وشغب
الناس وتفرقوا عنه وقعد البخاري في منزله.
وقالوا له بعد ذلك ترجع عن هذا القول حتى نعود اليك قال لا افعل الا ان تجيئوا بحجة
فيما تقولون اقوى من حجتي واعجبني من محمد بن اسماعيل ثباته، وكان يقول اما افعال
العباد فمخلوقة فقد حدثنا علي بن عبد الله حدثنا مروان بن معاوية حدثنا ابو مالك عن
ربعي عن حذيفة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ان الله يصنع كل صانع وصنعته.
وبه قال وسمعت عبيد الله بن سعيد يقول سمعت يحيى بن سعيد يقول ما زلت اسمع اصحابنا
يقولون ان افعال العباد مخلوقة قال البخاري حركاتهم واصواتهم واكتسابهم وكتابتهم
مخلوقة فاما القران المتلو المبين المثبت في المصاحف المسطور المكتوب الموعى في
القلوب فهو كلام الله ليس بمخلوق قال الله تعالى {بل هو ايات بينات في صدور الذين
اوتوا العلم} (العنكبوت 49).
وقال البخاري: القران كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر.
وقال ايضا: من زعم من اهل نيسابور وقومس والري وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة
والبصرة ومكة والمدينة اني قلت لفظي بالقران مخلوق فهو كذاب فاني لم اقله الا اني
قلت افعال العباد مخلوقة.
وقال احمد بن سلمة: دخلت على البخاري فقلت يا ابا عبد الله هذا رجل مقبول بخراسان
خصوصا في هذه المدينة وقد لج في هذا الحديث حتى لا يقدر احد منا ان يكلمه فيه فما
ترى فقبض على لحيته ثم قال وافوض امري الى الله ان الله بصير بالعباد (غافر 44)
اللهم انك تعلم اني لم ارد المقام بنيسابور اشرا ولا بطرا ولا طلبا للرئاسة انما
ابت علي نفسي في الرجوع الى وطني لغلبة المخالفين وقد قصدني هذا الرجل حسدا لما
اتاني الله لا غير ثم قال لي يا احمد اني خارج غدا لتتخلصوا من حديثه لاجلي، فاخبرت
جماعة اصحابنا فو الله ما شيعه غيري كنت معه حين خرج من البلد واقام على باب البلد
ثلاثة ايام لاصلاح امره.
وقال محمد بن ابي حاتم اتى رجل عبد الله البخاري فقال يا ابا عبد الله ان فلانا
يكفرك فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: اذا قال الرجل لاخيه يا كافر فقد باء به
احدهما وكان كثير من اصحابه يقولون له ان بعض الناس يقع فيك فيقول ان كيد الشيطان
كان ضعيفا (النساء 76)، ويتلو ايضا ولا يحيق المكر السيئ الا باهله (فاطر 43) فقال
له عبد المجيد بن ابراهيم كيف لا تدعو الله على هؤلاء الذين يظلمونك ويتناولونك
ويبهتونك، فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم اصبروا حتى تلقوني على الحوض وقال
صلى الله عليه وسلم من دعا على ظالمه فقد انتصر
محنته مع امير بخارى
روى احمد بن منصور الشيرازي قال سمعت بعض اصحابنا يقول لما قدم ابوعبد الله بخارى
نصبت له القباب على فرسخ من البلد واستقبله عامة اهل البلد حتى لم يبق احد الا
استقبله ونثر عليه الدنانير والدراهم والسكر الكثير فبقي اياما قال فكتب بعد ذلك
محمد بن يحيى الذهلي الى خالد بن احمد امير بخارى ان هذا الرجل قد اظهر خلاف السنة
فقرا كتابه على اهل بخارى فقالوا لا نفارقه فامره الامير بالخروج من البلد فخرج.
قال احمد بن منصور فحكى لي بعض اصحابنا عن ابراهيم بن معقل النسفي قال رايت محمد بن
اسماعيل في اليوم الذي اخرج فيه من بخارى فتقدمت اليه فقلت يا ابا عبد الله كيف ترى
هذا اليوم من اليوم الذي نثر عليك فيه ما نثر فقال لا ابالي اذا سلم ديني.
وروي عن بكر بن منير بن خليد بن عسكر انه قال: بعث الامير خالد ابن احمد الذهلي
والي بخارى الى محمد بن اسماعيل ان احمل الي كتاب الجامع و التاريخ وغيرهما لاسمع
منك فقال لرسوله انا لا اذل العلم ولا احمله الى ابواب الناس فان كانت لك الى شيء
منه حاجة فاحضر في مسجدي او في داري وان لم يعجبك هذا فانك سلطان فامنعني من المجلس
ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة لاني لا اكتم العلم لقول النبي صلى الله عليه
وسلم من سئل عن علم فكتمه الجم بلجام من نار فكان سبب الوحشة بينهما هذا.
وفاة البخاري
توفي البخاري ـ رحمه الله ـ ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين وقد بلغ اثنتين وستين سنة،
وروي في قصة وفاته عدة روايات منها:
قال محمد بن ابي حاتم سمعت ابا منصور غالب بن جبريل وهو الذي نزل عليه ابو عبد الله
يقول: انه اقام عندنا اياما فمرض واشتد به المرض، فلما وافى تهيا للركوب فلبس خفيه
وتعمم فلما مشى قدر عشرين خطوة او نحوها وانا اخذ بعضده ورجل اخذ معي يقوده الى
الدابة ليركبها فقال رحمه الله ارسلوني فقد ضعفت فدعا بدعوات ثم اضطجع فقضى رحمه
الله فسال منه العرق شيء لا يوصف فما سكن منه العرق الى ان ادرجناه في ثيابه وكان
فيما قال لنا واوصى الينا ان كفنوني في ثلاثة اثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة
ففعلنا ذلك فلما دفناه فاح من تراب قبره رائحة غالية اطيب من المسك فدام ذلك اياما
ثم علت سواري بيض في السماء مستطيلة بحذاء قبره فجعل الناس يختلفون ويتعجبون واما
التراب فانهم كانوا يرفعون عن القبر حتى ظهر القبر ولم نكن نقدر على حفظ القبر
بالحراس وغلبنا على انفسنا فنصبنا على القبر خشبا مشبكا لم يكن احد يقدر على الوصول
الى القبر فكانوا يرفعون ما حول القبر من التراب ولم يكونوا يخلصون الى القبر واما
ريح الطيب فانه تداوم اياما كثيرة حتى تحدث اهل البلدة وتعجبوا من ذلك وظهر عند
مخالفيه امره بعد وفاته وخرج بعض مخالفيه الى قبره واظهروا التوبة والندامة مما
كانوا شرعوا فيه من مذموم المذهب قال محمد بن ابي حاتم ولم يعش ابو منصور غالب بن
جبريل بعده الا القليل واوصى ان يدفن الى جنبه.
وقال محمد بن محمد بن مكي الجرجاني سمعت عبد الواحد بن ادم الطواويسي يقول رايت
النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ومعه جماعة من اصحابه وهو واقف في موضع فسلمت
عليه فرد علي السلام فقلت ما وقوفك يا رسول الله قال انتظر محمد بن اسماعيل البخاري
فلما كان بعد ايام بلغني موته فنظرت فاذا قد مات في الساعة التي رايت النبي صلى
الله عليه وسلم فيها.
رحم الله الامام البخاري رحمة واسعة وجزاه الله خيرا عن الاسلام والمسلمين وعن حديث
رسول الله (صلى الله عليه وسلم ).