عظماء في الاسلام - محمد الفاتح

 


محمد الفاتح اراد فتح روما

شاءت الاقدار ان يكون السلطان العثماني محمد الفاتح هو صاحب البشارة التي بشر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثه: لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الامير اميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش [مسند احمد: 4/335].

وانتظر المسلمون ثمانية قرون ونصف قرن حتى تحققت البشارة، وفتحت القسطنطينية بعد محاولات جادة بدات منذ عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه (32هـ=652م)، وازدادت اصرارا في عهد معاوية بن ابي سفيان رضي الله عنه في مرتين: الاولى سنة (49هـ = 666م) والثانية بين سنتي (54-60=673-679م)، واشتعلت رغبة واملا طموحا في عهد سليمان بن عبد الملك الخليفة الاموي سنة (99هـ=719م).. لكن هذه المحاولات لم يكتب لها النجاح والتوفيق.

نشاة محمد الفاتح
ولد السلطان محمد الفاتح في (27 من رجب 835 هـ = 30 من مارس 1432م)، ونشا في كنف ابيه السلطان مراد الثاني سابع سلاطين الدولة العثمانية، الذي تعهده بالرعاية والتعليم؛ ليكون جديرا بالسلطنة والنهوض بمسئولياتها؛ فاتم حفظ القران، وقرا الحديث، وتعلم الفقه، ودرس الرياضيات والفلك وامور الحرب، والى جانب ذلك تعلم العربية والفارسية واللاتينية واليونانية، واشترك مع ابيه السلطان مراد في حروبه وغزواته.

ثم عهد اليه ابوه بامارة مغنيسيا، وهو صغير السن، ليتدرب على ادارة شئون الدولة وتدبير امورها، تحت اشراف مجموعة من كبار علماء عصره، مثل: الشيخ اق شمس الدين، والملا الكوراني؛ وهو ما اثر في تكوين شخصية الامير الصغير، وبناء اتجاهاته الفكرية والثقافية بناء اسلاميا صحيحا.

وقد نجح الشيخ اق شمس الدين في ان يبث في روح الامير حب الجهاد والتطلع الى معالي الامور، وان يلمح له بانه المقصود ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم، فشب طامح النفس، عالي الهمة، موفور الثقافة، رهيف الحس والشعور، اديبا شاعرا، فضلا عن المامه بشئون الحرب والسياسة.

تولى محمد الفاتح السلطنة بعد وفاة ابيه في (5 من المحرم 855 هـ=7من فبراير 1451م)، وبدا في التجهيز لفتح القسطنطينية، ليحقق الحلم الذي يراوده، وليكون هو محل البشارة النبوية، وفي الوقت نفسه يسهل لدولته الفتية الفتوحات في منطقة البلقان، ويجعل بلاده متصلة لا يفصلها عدو يتربص بها.

ومن ابرز ما استعد له لهذا الفتح المبارك ان صب مدافع عملاقة لم تشهدها اوروبا من قبل، وقام ببناء سفن جديدة في بحر مرمرة لكي تسد طريق الدردنيل، وشيد على الجانب الاوروبي من البوسفور قلعة كبيرة عرفت باسم قلعة روملي حصار لتتحكم في مضيق البوسفور.

فتح القسطنطينية
وبعد ان اتم السلطان كل الوسائل التي تعينه على تحقيق النصر، زحف بجيشه البالغ 265 الف مقاتل من المشاة والفرسان، تصحبهم المدافع الضخمة، واتجهوا الى القسطنطينية، وفي فجر يوم الثلاثاء الموافق (20 من جمادى الاولى 857هـ= 29 من مايو 1453م) نجحت قوات محمد الفاتح في اقتحام اسوار القسطنطينية، في واحدة من العمليات العسكرية النادرة في التاريخ، وسياتي تفاصيلها في يوم فتحها.. وقد لقب السلطان محمد الثاني من وقتها بـمحمد الفاتح وغلب عليه، فصار لا يعرف الا به.

ولما دخل المدينة ترجل عن فرسه، وسجد لله شكرا، ثم توجه الى كنيسة ايا صوفيا، وامر بتحويلها مسجدا، وامر باقامة مسجد في موضع قبر الصحابي الجليل ابي ايوب الانصاري الذي كان ضمن صفوف المحاولة الاولى لفتح المدينة العريقة، وقرر اتخاذ القسطنطينية عاصمة لدولته، واطلق عليها اسم اسلام بول اي دار الاسلام، ثم حرفت بعد ذلك واشتهرت باستانبول، وانتهج سياسة متسامحة مع سكان المدينة، وكفل لهم ممارسة عباداتهم في حرية كاملة، وسمح بعودة الذين غادروا المدينة في اثناء الحصار الى منازلهم.

ما بعد الفتح
بعد اتمام هذا الفتح الذي حققه محمد الثاني وهو لا يزال شابا لم يتجاوز الخامسة والعشرين -وكان هذا من ايات نبوغه العسكري المبكر – اتجه الى استكمال الفتوحات في بلاد البلقان، ففتح بلاد الصرب سنة (863هـ=1459م)، وبلاد المورة (865هـ= 1460م)، وبلاد الافلاق والبغدان (رومانيا) سنة (866هـ=1462م)، والبانيا بين عامي (867-884م=1463-1479م)، وبلاد البوسنة والهرسك بين عامي (867-870هـ=1463-1465م)، ودخل في حرب مع المجر سنة (881هـ=1476م)، كما اتجهت انظاره الى اسيا الصغرى ففتح طرابزون سنة (866هـ=1461م).

كان من بين اهداف محمد الفاتح ان يكون امبراطورا على روما، وان يجمع فخارا جديدا الى جانب فتحة القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، ولكي يحقق هذا الامل الطموح كان عليه ان يفتح ايطاليا، فاعد لذلك عدته، وجهز اسطولا عظيما، تمكن من انزال قواته وعدد كبير من مدافعه بالقرب من مدينة اوترانت، ونجحت تلك القوات في الاستيلاء على قلعتها، وذلك في (جمادى الاولى 885هـ= يوليو 1480م).

وعزم محمد الفاتح على ان يتخذ من تلك المدينة قاعدة يزحف منها شمالا في شبه جزيرة ايطاليا، حتى يصل الى روما، لكن المنية وافته في (4 من ربيع الاول 886هـ=3 من مايو 1481م)، واتهم احد اطبائه بدس السم له في الطعام، وكان لموته دوي هائل في اوروبا، التي تنفست الصعداء حين علمت بوفاته، وامر البابا ان تقام صلاة الشكر ثلاثة ايام ابتهاجا بهذا النبا.

محمد الفاتح رجل الدولة وراعي الحضارة
لم تكن ميادين الجهاد والحرب التي خاضها محمد الفاتح خلال مدة حكمه التي بلغت ثلاثين عاما هي ابرز انجازات محمد الفاتح؛ حيث اتسعت الدولة العثمانية اتساعا عظيما لم تشهده من قبل -وانما كان رجل دولة من طراز رفيع، فقد استطاع بالتعاون مع الصدر الاعظم قرة مانلي محمد باشا، وكاتبه ليث زاده محمد جلبي وضع الدستور المسمى باسمه، وقد بقيت مبادئه الاساسية سارية المفعول في الدولة العثمانية حتى عام (1255هـ=1839م).

واشتهر محمد الفاتح بانه راع للحضارة والادب، وكان شاعرا مجيدا له ديوان شعر، وقد نشر المستشرق الالماني ج. جاكوب اشعاره في برلين سنة (1322هـ=1904م)، وكان الفاتح يداوم على المطالعة وقراءة الادب والشعر، ويصاحب العلماء والشعراء، ويصطفي بعضهم ويوليهم مناصب الوزارة.

ومن شغفه بالشعر عهد الى الشاعر شهدي ان ينظم ملحمة شعرية تصور التاريخ العثماني على غرار الشاهنامة التي نظمها الفردوسي. وكان اذا سمع بعالم كبير في فن من الفنون قدم له يد العون والمساعدة بالمال، او باستقدامه الى دولته للاستفادة من علمه، مثلما فعل مع العالم الفلكي الكبير علي قوشجي السمرقندي، وكان يرسل كل عام مالا كثيرا الى الشاعر الهندي خواجه جيهان، والشاعر الفارسي عبد الرحمن جابي.

واستقدم محمد الفاتح رسامين من ايطاليا الى القصر السلطاني، لانجاز بعض اللوحات الفنية، وتدريب بعض العثمانيين على هذا الفن.

وعلى الرغم من انشغال الفاتح بالجهاد فانه عني بالاعمار وتشييد المباني الراقية، فعلى عهده انشئ اكثر من ثلاثمائة مسجد، منها في العاصمة استانبول وحدها (192) مسجدا وجامعا، بالاضافة الى (57) مدرسة ومعهدا، و(59) حماما.

ومن اشهر اثاره المعمارية مسجد السلطان محمد، وجامع ابي ايوب الانصاري، وقصر سراي طوب قبو.

لقد كان الفاتح مسلما ملتزما باحكام الشريعة الاسلامية، تقيا ورعا بفضل النشاة التي نشاها واثرت فيه تاثيرا عظيما، اما سلوكه العسكري فكان سلوكا متحضرا، لم تشهده اوروبا في عصورها الوسطى ولم تعرفه شريعتها من قبل. اقرا ايضا:
فتح القسطنطينية بين الحلم والحقيقة