ادرك زنكي ان التوحد قرين التوحيد
في خضم الاجتياح الصليبي للمشرق الاسلامي كان المسلمون يتطلعون الى قائد قوي وزعيم
مخلص يلم شعثهم، ويجمع شتاتهم، ويوحد جهودهم، ويسير بهم نحو غايتهم المنشودة وهدفهم
الاسمى في طريق الجهاد والتحرير.
فان الارض التي انبتت اولئك الابطال العظام الذين قادوا حركة التاريخ، ورفعوا لواء
الاسلام، وتقدموا بالمسلمين نحو الامجاد والبطولات، لم تجدب عن ان تقدم جيلا من
القادة الامجاد، يستكملون مسيرة الاباء، ويعيدون مجد الاجداد.
ولم تعقم الارحام التي انجبت رهبان الليل وفرسان النهار ان تنجب جيلا من الابناء
والاحفاد، الذين توارثوا مجد الاباء وشرف الاجداد.
وفي ليل الياس المطبق وظلام الانكسار الموجع والاستسلام المهين، لاحت بارقة امل في
العيون، ما لبثت ان صارت شعاعا توهج ليضيء الطريق، فانتبهت النفوس من غفوتها،
وافاقت القلوب من حسرتها، وتلاقت الهمم وتوحدت السواعد، والتف الجميع حول ذلك البطل
المرتقب الذي جاء ليحقق الحلم، ويجدد الامل، ويمحو شبح الهزيمة، ويعيد العزة
والكرامة الى ملايين المسلمين، ليس في عصره فقط، وانما لجميع المسلمين عبر العصور
والازمان.
وكان ذلك البطل هو عماد الدين زنكي.
اسرة عماد الدين
ولد عماد الدين زنكي بن اق سنقر بن عبد الله ال ترغان نحو سنة [477هـ = 1084م] في
اسرة تنتمي الى قبائل الساب يو التركمانية، وكان والده اق سنقر مملوكا للسلطان
السلجوقي ملكشاه، وكان مقربا اليه، ذا حظوة ومكانة لديه، وقد اعتمد عليه في كثير من
الامور فلم يخذله قط، وهو ما جعله ينال ثقته ورضاه، وزاد من منزلته عنده، ورفع من
قدره لديه.
واشترك اق سنقر في كثير من معارك السلاجقة؛ فولاه السلطان ملكشاه ولاية حلب،
واستطاع اق سنقر – خلال تلك الفترة - ان ينشر الامن في البلاد، ويوقف اعمال السلب
والنهب التي انتشرت في ذلك الوقت، والحقت ضررا بالغا بالزراعة والتجارة، بعد ان
تصدى لنشاط قطاع الطرق واللصوص، وكتب الى عماله يامرهم بتتبع المفسدين وتوفير الامن
والحماية للمسافرين.
وكانت العلاقة بين السلطان ملكشاه وبين اق سنقر تقوم على التفاهم المشترك والتقدير
المتبادل بينهما.
فلما توفى ملكشاه عام [485هـ = 1096م]، تولى الحكم من بعده ابنه بريكا روق، فثار
عليه عمه تاج الدين تتش، وتصدى له اق سنقر بجيوشه، ولكن تتش تمكن من هزيمة قواته في
[جمادي الاولى 487هـ = مايو 1094م] واسره، وما لبث ان قتله.
وهكذا بذل اق سنقر حياته وفاء لسلطانه ملكشاه، وحفاظا على ولده بركيا روق من بعده.
تضحية ووفاء
ولم ينس السلطان الجديد تضحية اق سنقر في سبيل عرشه ووفاءه له، فوجه جل اهتمامه
وعنايته نحو ابنه الوحيد عماد الدين زنكي الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره.
واقام عماد الدين في حلب في رعاية مماليك ابيه، ثم ما لبث ان انتقل عام [489هـ =
1096م] الى الموصل ليحظى برعاية القائد السلجوقي كربوقا، فظل ملازما له حتى توفي
سنة [495هـ = 1101م]، فخلفه عليها شمس الدين جكرمش الذي قر به واحبه واتخذه ولدا،
وظل عماد الدين ملازما له حتى توفي سنة [500هـ = 1106م]، فتولى الموصل من بعده
جاولي سقاو، وتوطدت علاقة عماد الدين بالوالي الجديد، حتى خرج ذلك الوالي على
السلطان، فانفصل عماد الدين عنه، وانضم الى الوالي الجديد مودودو به التونتكين الذي
عينه السلطان على الموصل، وكان ذلك مدعاة الى اكبار السلطان له، وثقته فيه، وزيادة
حظوته ومكانته عنده.
بطل وبطولات
واشترك عماد الدين مع مودود في معاركه الكثيرة التي خاضها ضد الصليبيين في الشام
والجزيرة، وقد لفت اليه الانظار بشجاعته الفائقة ومهارته القتالية العالية.
وعندما تولى السلطان السلجوقي محمود - بعد وفاة السلطان محمد سنة [511هـ = 1117م) -
حدثت عدة محاولات للثورة ضده، ولكن عماد الدين ظل على ولائه للسلطان، فاستطاع ان
يحظى بثقته فيه وتقديره له، كما اثبت جدارته في ولايته الجديدة بواسط، وتمكن من صد
هجمات الاعراب الدائمة عليها، ونشر الامن في ربوعها.
ومع مطلع عام [517هـ = 1123م] استطاع السلاجقة – بفضل الخطة البارعة التي اتبعها
عماد الدين – ان يلحقوا هزيمة ساحقة بجيوش دبيس الخارج على الخليفة العباسي، وخلصوا
الخلافة من خطر محقق كاد يعصف بها، فانضم دبيس الى الصليبيين بعد هزيمته، وساهم
معهم في حصار حلب طمعا في الاستيلاء عليها.
الهروب الى تكريت
وعندما تدهورت العلاقات بين الخليفة العباسي المسترشد والسلطان السلجوقي محمود في
عام [519هـ = 1125م] كان لعماد الدين دور كبير في انهاء الصراع بينهما، وتجاوز
الازمة بامان قبل ان يتفاقم الموقف، وتحدث مواجهة وخيمة العواقب بين الطرفين.
وعندما توفي السلطان محمود في منتصف عام [525هـ = 1131م] اراد السلطان مسعود بن
محمد – حاكم اذربيجان – الاستيلاء على عرش السلاجقة في العراق، واستطاع استمالة
عماد الدين لمساعدته في المطالبة به، ولكن اخاه سلجوقشاه الطامح ايضا في العرش سبقه
الى الخليفة العباسي ليحظى بموافقته، ودارت معركة بين الطرفين انتهت بهزيمة عماد
الدين، واسر عدد كبير من قواته، وهو ما اضطره الى اللجوء الى تكريت؛ حيث احسن
واليها نجم الدين ايوب استقباله واكرم وفادته، وساعده حتى تمكن من اعادة تنظيم
قواته.
عماد الدين والسلطان مسعود
واستطاع مسعود ان يصبح سلطانا على السلاجقة في العراق وبلاد فارس، بعد ان قضى على
منافسيه، ورفض عماد الدين الخضوع للسلطان الجديد، فساءت العلاقة بينهما، وفي الوقت
نفسه دخل عماد الدين في صراع اخر مع الخليفة العباسي، الذي خرج اليه على راس ثلاثين
الف مقاتل، وحاصره نحو ثمانين يوما، ولكن عماد الدين استطاع الصمود والمقاومة حتى
عرض عليه الخليفة المسترشد الصلح في مطلع عام [528هـ = 1133م]، فوافق عماد الدين
دون تردد.
ثم ما لبثت ان تحسنت العلاقات بين السلطان مسعود وعماد الدين زنكي، وان ظل السلطان
غير مطمئن لما كان يتمتع به عماد الدين من استقلال، وما يمتلكه من نفوذ ظل يتسع على
مر الايام.
العالم الاسلامي والحرب الصليبية الاولى
استطاع الصليبيون- بعد حملتهم الصليبية الاولى- ان يستولوا على جزء كبير من بلاد
الشام والجزيرة خلال الفترة من [489هـ = 1069م] الى [498هـ = 1105م]، وانشئوا فيها
اماراتهم الصليبية الاربع: الرها، وانطاكية، وطرابلس، وبيت المقدس.
واصبح الوجود الصليبي في المشرق الاسلامي يشكل خطرا بالغا على بقية بلاد المسلمين،
خاصة ان العالم الاسلامي- في ذلك الوقت- كان يعاني حالة من الفوضى والتشتت والضياع،
بسبب تنازع الحكام والولاة، والخلاف الدائم بين العباسيين والفاطميين من جهة، وبين
الخلافة العباسية التي بدا الضعف يدب اليها ومحاولات التمرد والاستقلال عنها التي
راحت تتزايد يوما بعد يوم من جهة اخرى.
وسعى الصليبيون الى بسط نفوذهم واحكام سيطرتهم على المزيد من البلاد اليهم، وانشاء
امارات صليبية جديدة؛ لتكون شوكة في ظهر العالم الاسلامي، تمهيدا للقضاء التام عليه.
الاستعداد للمعركة الكبرى
ولم يشا عماد الدين ان يدخل في حرب مع الصليبيين منذ البداية، فقد كان يريد ان يوطد
دعائم امارته الجديدة، ويدعم جيشه، ويعزز امكاناته العسكرية والاقتصادية قبل ان
يقدم على خوض غمار المعركة ضد الصليبيين.
وعمل على توحيد الامارات الصغيرة المتناثرة من حوله تحت لواء واحد، فقد كان خطر تلك
الامارات المتنازعة لا يقل عن خطر الصليبيين المحدق بهم، وذلك بسبب التنازع المستمر
بينهم، وغلبة المصالح الخاصة والاهواء على امرائهم.
ومن ثم فقد عمل على تهيئة الامة الاسلامية وتوحيدها قبل ان يخوض معركتها المرتقبة.
واستطاع الاستيلاء على حلب، كما هاجم عددا من المواقع الصليبية المحيطة بها، وتمكن
من الاستيلاء على خمسة منها، كما تمكن من الاستيلاء على بعرين التي وجد الصليبيون
في استيلائه عليها خطرا يهدد الامارات الصليبية في المشرق، وحاول الصليبيون انقاذ
بعرين، ولكن حملتهم التي قادها الامبراطور البيزنطي حنا كومنين فشلت في ذلك.
وعمل عماد الدين على تفتيت التحالف الخطير الذي قام بين الصليبيين في الشام
والبيزنطيين، واستطاع ان يزرع الشك بين الطرفين ليقضي على التعاون بينهما، كما سعى
في الوقت نفسه الى طلب النجدات العسكرية من مختلف انحاء العالم الاسلامي.
الطريق الى الرها
وسعى عماد الدين للاستيلاء على دمشق ليوحد الجبهة الشامية تمهيدا للقائه المرتقب مع
الصليبيين، الا ان امراءها استنجدوا بالصليبيين، وهو ما اضطره الى التراجع عنها.
واستطاع ان يدعم موقفه بالاستيلاء على بعض المواقع وعدد من الحصون الخاضعة لامارة
الرها الصليبية، وتمكن بذلك من قطع الاتصال بين امير الرها وبين حلفائه.
وكانت امارة الرها واحدة من اهم الامارات الصليبية في المشرق، وذلك لقوة تحصينها،
وقربها من العراق التي تمثل مركز الخلافة الاسلامية، ونظرا لما تسببه من تهديدات
واخطار للمناطق الاسلامية المجاورة لها.
ومن ثم فقد اتجهت نية عماد الدين الى اسقاطها، وصح عزمه على فتحها، وراح يدرس
الموقف بدقة، فادرك انه لن يتمكن من فتح الرها الا اذا استدرج جوسلين- امير الرها-
وقواته خارجها، فلجا الى حيلة بارعة اتاحت له الوصول الى ماربه؛ اذ تظاهر بالخروج
الى امد لحصارها، وفي الوقت نفسه كان بعض اعوانه يرصدون تحركات امير الرها، الذي ما
ان اطمان الى انشغال عماد الدين عنه بحصار امد حتى خرج بجنوده الى تل باشر- على
الضفة الغربية للفرات- ليستجم ويتفرغ لملذاته.
وقد كان هذا ما توقعه عماد الدين، فاسرع بالسير الى الرها في جيش كبير، واستنفر كل
من يقدر على القتال من المسلمين لجهاد الصليبيين، فاجتمع حوله حشد هائل من
المتطوعين، فحاصر الرها من جميع الجهات، وحاول التفاهم مع اهل الرها بالطرق السلمية،
وبذل جهدا كبيرا لاقناعهم بالاستسلام، وتعهد لهم بالامان، ولكنهم ابوا، فما كان منه
الا ان شدد الحصار عليهم، واستخدم الالات التي جلبها معه لتدمير اسوار المدينة قبل
ان يتمكن الصليبيون من تجميع جيوشهم لانقاذ المدينة.
حصار الرها وسقوطها
وبعد (28) يوما من الحصار انهارت بعض اجزاء الحصن، ثم ما لبثت القلعة ان استسلمت
لقوات عماد الدين في [28 من جمادي الاخرة 539هـ = 27 من نوفمبر 1144م]، فاصدر عماد
الدين اوامره الى الجند بايقاف اي اعمال للقتل او الاسر او السلب، واعادة ما
استولوا عليه من غنائم واسلاب، فاعادوا كل ما اخذوه الى اصحابه.
وبدا من فوره عملية تجديد واصلاحات شاملة للمدينة، فاعاد بناء ما تهدم من اسوارها،
وتعمير ما ضرب في الحرب اثناء اقتحام المدينة، وسار في اهلها بالعدل وحسن السيرة،
حتى يعموا في ظله بالامن والعدل، واحتفظوا بكنائسهم واوديتهم فلم يتعرض لهم في
عبادتهم وطقوسهم.
لغز اغتيال عماد الدين
كان فتح الرها هو اجل واعظم اعمال عماد الدين، ولم يمض عامان على ذلك النصر العظيم،
حتى تم اغتياله في [6 من ربيع الاخرة 541هـ = 15 من سبتمبر 1146م] خلال حصاره لقلعة
جعبر على يد يرنقش- كبير حرسه- الذي تسلل الى مخدعه فذبحه وهو نائم.
ويرى عدد من المؤرخين ان اغتيال عماد الدين جاء لاسباب سياسية اكثر منها شخصية، فقد
كان في اوج انتصاره على الصليبيين، كما حقق انتصارا اخر على المستوى الاسلامي بعد
ان نجح في توحيد الصفوف وتكوين جبهة اسلامية قوية، ومن ناحية اخرى فقد كانت قلعة
جعبر على وشك السقوط بعد ان بلغ حصاره لها مداه، فضلا عن ان قاتله يرنقش كان من
الباطنية، وقد استطاع التستر والانتظار طويلا- على عادة الباطنية- حتى حانت اللحظة
المناسبة لتنفيذ جريمته، فاغتال عماد الدين وهو في قمة مجده وانتصاره.