عظماء في الاسلام - الإمام الطبري

 


امام المؤرخين والمفسرين
كان اكثر علماء عصره همة في طلب العلم وتحصيله وفي تاليف امهات الكتب حتى روي انه كان يكتب اربعين صفحة في كل يوم، انه الامام محمد بن جرير الطبري صاحب اكبر كتابين في التفسير والتاريخ، قال عنه احمد بن خلكان صاحب وفيات الاعيان: العلم المجتهد عالم العصر صاحب التصانيف البديعة كان ثقة صادقا حافظا راسا في التفسير اماما في الفقه والاجماع والاختلاف علامة في التاريخ وايام الناس عارفا بالقراءات وباللغة وغير ذلك.

فإلى صفحات من سيرته ومواقف من حياته:

حياته العلمية
بدا الطبري طلب العلم بعد سنة 240هـ واكثر الترحال ولقي نبلاء الرجال، قرا القران ببيروت على العباس بن الوليد ثم ارتحل منها الى المدينة المنورة ثم الى مصر والري وخراسان، واستقر في اواخر امره ببغداد.

سمع الطبري من العديدين من مشايخ عصره وله رحلات الى العديد من عواصم العالم الاسلامي التي ازدهرت بعلمائها وعلومها ومنها مصر.

مؤلفات الطبري
كان الطبري من اكثر علماء عصره نشاطا في التاليف، اشهر مؤلفاته تفسيره المعروف بتفسير الطبري، وكتاب تاريخ الامم والملوك روي عنه انه قال: استخرت الله وسالته العون على ما نويته من تصنيف التفسير قبل ان اعمله ثلاث سنين فاعانني.

قال الحاكم وسمعت ابا بكر بن بالويه يقول قال لي ابو بكر بن خزيمة بلغني انك كتبت التفسير عن محمد بن جرير قلت بلى كتبته عنه املاء قال كله قلت نعم قال في اي سنة قلت من سنة ثلاث وثمانين ومائتين الى سنة تسعين ومائتين قال فاستعاره مني ابو بكر ثم رده بعد سنين ثم قال لقد نظرت فيه من اوله الى اخره وما اعلم على اديم الارض اعلم من محمد بن جرير.

قال ابو محمد الفرغاني تم من كتب محمد بن جرير كتاب التفسير الذي لو ادعى عالم ان يصنف منه عشرة كتب كل كتاب يحتوي على علم مفرد مستقصى لفعل وتم من كتبه كتاب التاريخ الى عصره وتم ايضا كتاب تاريخ الرجال من الصحابة والتابعين والى شيوخه الذين لقيهم وتم له كتاب لطيف القول في احكام شرائع الاسلام وهو مذهبه الذي اختاره وجوده واحتج له وهو ثلاثة وثمانون كتابا وتم له كتاب القراءات والتنزيل والعدد وتم له كتاب اختلاف علماء الامصار وتم له كتاب الخفيف في احكام شرائع الاسلام وهو مختصر لطيف وتم له كتاب التبصير وهو رسالة الى اهل طبرستان يشرح فيها ما تقلده من اصول الدين وابتدا بتصنيف كتاب تهذيب الاثار وهو من عجائب كتبه ابتداء بما اسنده الصديق مما صح عنده سنده وتكلم على كل حديث منه بعلله وطرقه ثم فقهه واختلاف العلماء وحججهم وما فيه من المعاني والغريب والرد على الملحدين فتم منه مسند العشرة واهل البيت والموالي وبعض مسند ابن عباس فمات قبل تمامه، قلت هذا لو تم لكان
يجيء في مائة مجلد، قال وابتدا بكتابه البسيط فخرج منه كتاب الطهارة فجاء في نحو من الف وخمسمائة ورقة لانه ذكر في كل باب منه اختلاف الصحابة والتابعين وحجة كل قول وخرج منه ايضا اكثر كتاب الصلاة وخرج منه اداب الحكام وكتاب المحاضر والسجلات وكتاب ترتيب العلماء وهو من كتبه النفيسة ابتداه باداب النفوس واقوال الصوفية ولم يتمه وكتاب المناسك وكتاب شرح السنة وهو لطيف بين فيه مذهبه واعتقاده، وكتابه المسند المخرج ياتي فيه على جميع ما رواه الصحابي من صحيح وسقيم ولم يتمه، ولما بلغه ان ابا بكر بن ابي داود تكلم في حديث غدير خم عمل كتاب الفضائل فبدا بفضل ابي بكر ثم عمر وتكلم على تصحيح حديث غدير خم واحتج لتصحيحه ولم يتم الكتاب.

وقال بعض العلماء: لو سافر رجل الى الصين حتى يحصل تفسير محمد بن جرير لم يكن كثيرا.

اسلوبه في التاليف
يقول احمد بن خلكان لابي جعفر في تاليفه عبارة وبلاغة فمما قاله في كتاب الاداب النفيسة والاخلاق الحميدة القول في البيان عن الحال الذي يجب على العبد مراعاة حاله فيما يصدر من عمله لله، عن نفسه قال انه لا حالة من احوال المؤمن يغفل عدوه الموكل به عن دعائه الى سبيله والقعود له رصدا بطرق ربه المستقيمة صادا له عنها كما قال لربه عز ذكره اذ جعله من المنظرين { لاقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لاتينهم من بين ايديهم ومن خلفهم} (الاعراف: 16-17) طمعا منه في تصديق ظنه عليه اذ قال لربه {لئن اخرتن الى يوم القيامة لاحتنكن ذريته الا قليلا} ( الاسراء:62) فحق على كل ذي حجى ان يجهد نفسه في تكذيب ظنه وتخييبه منه امله وسعيه فيما ارغمه ولا شيء من فعل العبد ابلغ في مكروهه من طاعته ربه وعصيانه امره ولا شيء اسر اليه من عصيانه ربه واتباعه امره فكلام ابي جعفر من هذا النمط وهو كثير مفيد.

وروي عن ابي سعيد الدينوري مستملي ابن جرير اخبرنا ابو جعفر محمد بن جرير الطبري بعقيدته فمن ذلك وحسب امرئ ان يعلم ان ربه هو الذي على العرش استوى فمن تجاوز ذلك فقد خاب وخسر وهذا تفسير هذا الامام مشحون في ايات الصفات باقوال السلف على الاثبات لها لا على النفي والتاويل وانها لا تشبه صفات المخلوقين ابدا.

ثناء العلماء عليه
قال ابو سعيد بن يونس: محمد بن جرير من اهل امل كتب بمصر ورجع الى بغداد وصنف تصانيف حسنة تدل على سعة علمه.

وقال الخطيب البغدادي: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب كان احد ائمة العلماء يحكم بقوله ويرجع الى رايه لمعرفته وفضله وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه احد من اهل عصره فكان حافظا لكتاب الله عارفا بالقراءات بصيرا بالمعاني فقيها في احكام القران عالما بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها عارفا باقوال الصحابة والتابعين عارفا بايام الناس واخبارهم. وكان من افراد الدهر علما وذكاء وكثرة تصانيف قل ان ترى العيون مثله.

مواقف من حياته

قيل ان المكتفي اراد ان يحبس وقفا تجتمع عليه اقاويل العلماء فاحضر له ابن جرير فاملى عليهم كتابا لذلك، فاخرجت له جائزة فامتنع من قبولها، فقيل له لا بد من قضاء حاجة قال اسال امير المؤمنين ان يمنع السؤال يوم الجمعة ففعل ذلك، وكذا التمس منه الوزير ان يعمل له كتابا في الفقه فالف له كتاب الخفيف فوجه اليه بالف دينار فردها.

وروي عن محمد بن احمد الصحاف السجستاني سمعت ابا العباس البكري يقول جمعت الرحلة بين ابن جرير وابن خزيمة ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن هارون الروياني بمصر فارملوا ولم يبق عندهم ما يقوتهم واضر بهم الجوع فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا ياوون اليه فاتفق رايهم على ان يستهموا ويضربوا القرعة فمن خرجت عليه القرعة سال لاصحابه الطعام فخرجت القرعة على ابن خزيمة فقال لاصحابه امهلوني حتى اصلي صلاة الخيرة، قال فاندفع في الصلاة فاذا هم بالشموع ورجل من قبل والي مصر يدق الباب ففتحوا فقال ايكم محمد بن نصر فقيل هو ذا، فاخرج صرة فيها خمسون دينارا فدفعها اليه ثم قال وايكم محمد ابن جرير فاعطاه خمسين دينارا وكذلك للروياني وابن خزيمة ثم قال ان الامير كان قائلا بالامس فراى في المنام ان المحامد جياع قد طووا كشحهم فانفذ اليكم هذه الصرر واقسم عليكم اذا نفذت فابعثوا الي احدكم.

وقال ابو محمد الفرغاني في ذيل تاريخه على تاريخ الطبري قال حدثني ابو علي هارون بن عبد العزيز ان ابا جعفر لما دخل بغداد وكانت معه بضاعة يتقوت منها فسرقت فافضى به الحال الى بيع ثيابه وكمي قميصه فقال له بعض اصدقائه تنشط لتاديب بعض ولد الوزير ابي الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان قال نعم فمضى الرجل فاحكم له امره وعاد فاوصله الى الوزير بعد ان اعاره ما يلبسه فقربه الوزير ورفع مجلسه واجرى عليه عشرة دنانير في الشهر فاشترط عليه اوقات طلبه للعلم والصلوات والراحة وسال استلافه رزق شهر ففعل وادخل في حجرة التاديب وخرج اليه الصبي وهو ابو يحيى فلما كتبه اخذ الخادم اللوح ودخلوا مستبشرين فلم تبق جارية الا اهدت اليه صينية فيها دراهم ودنانير فرد الجميع وقال قد شرطت على شيء فلا اخذ سواه فدرى الوزير ذلك فادخله اليه وساله فقال هؤلاء عبيد وهم لا يملكون فعظم ذلك في نفسه.

وكان ربما اهدى اليه بعض اصدقائه الشيء فيقبله ويكافئه اضعافا لعظم مروءته. وكان ممن لا تاخذه في الله لومة لائم مع عظيم ما يلحقه من الاذى والشناعات من جاهل وحاسد وملحد فاما اهل الدين والعلم فغير منكرين علمه وزهده في الدنيا ورفضه لها وقناعته رحمه الله بما كان يرد عليه من حصة من ضيعة خلفها له ابوه بطبرستان يسيرة، و كان ينشد لنفسه:


اذا اعسـرت لم يعلم رفيقي واستغني فيستغنـي صديقـي

حيائـي حافظ لي ماء وجهي ورفقي في مطالبتـي رفيقي

ولو اني سمحت بماء وجهي لكنت الى العلى سهل الطريق

وله خلقـان لا ارضى فعالهما بطـر الغنى ومذلـة الفقـر

فاذا غنيت فلا تكـن بطرا واذا افتقرت فتـه على الدهــر


قال ابو القاسم بن عقيل الوراق: ان ابا جعفر الطبري قال لاصحابه هل تنشطون لتاريخ العالم من ادم الى وقتنا قالوا كم قدره فذكر نحو ثلاثين الف ورقة فقالوا هذا مما تفنى الاعمار قبل تمامه فقال انا لله ماتت الهمم فاختصر ذلك في نحو ثلاثة الاف ورقة ولما ان اراد ان يملي التفسير قال لهم نحوا من ذلك ثم املاه على نحو من قدر التاريخ.

وكان الطبري لا يقبل المناصب خوفا ان تشغله عن العلم من ناحية ولان من عادة العلماء البعد عن السلطان من ناحية اخري، فقد روى المراغي قال لما تقلد الخاقاني الوزارة وجه الى ابي جعفر الطبري بمال كثير فامتنع من قبوله فعرض عليه القضاء فامتنع فعرض عليه المظالم فابى فعاتبه اصحابه وقالوا لك في هذا ثواب وتحيي سنة قد درست وطمعوا في قبوله المظالم فذهبوا اليه ليركب معهم لقبول ذلك فانتهرهم وقال قد كنت اظن اني لو رغبت في ذلك لنهيتموني عنه قال فانصرفنا خجلين.

وفاته
قال ابو محمد الفرغاني حدثني ابو بكر الدينوري قال لما كان وقت صلاة الظهر من يوم الاثنين الذي توفي في اخره ابن جرير طلب ماء ليجدد وضوءه فقيل له تؤخر الظهر تجمع بينها وبين العصر فابى وصلى الظهر مفردة والعصر في وقتها اتم صلاة واحسنها، وحضر وقت موته جماعة منهم ابو بكر بن كامل فقيل له قبل خروج روحه يا ابا جعفر انت الحجة فيما بيننا وبين الله فيما ندين به فهل من شيء توصينا به من امر ديننا وبينة لنا نرجو بها السلامة في معادنا فقال الذي ادين الله به واوصيكم هو ما ثبت في كتبي فاعملوا به وعليه وكلاما هذا معناه واكثر من التشهد وذكر الله عز وجل ومسح يده على وجهه وغمض بصره بيده وبسطها وقد فارقت روحه الدنيا.

قال احمد بن كامل توفي ابن جرير عشية الاحد ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاث مئة ودفن في داره برحبة يعقوب يعني ببغداد قال ولم يغير شيبة وكان السواد فيه كثيرا وكان اسمر اقرب الى الادمة (السواد) اعين نحيف الجسم طويلا فصيحا وشيعه من لا يحصيهم الا الله تعالى.

رثاء الطبري
روي عن ابي الحسن هبة الله بن الحسن الاديب لابن دريد يرثي الطبري في قصيدة طويلة جاء فيها:

لن تستطيع لامــر الله تعقيـبا فاستنجد الصبر او فاستشعر الحوبـا

وافزع الى كنف التسليم وارض بما قضى المهيمن مكروهــا ومحبوبا

ان الـــرزية لا وفر تزعزعه ايدي الحوادث تشتيتـــا وتشذيبــا

ولا تفـرق الاف يفـــوت بهم بين يغادر حبـل الوصــل مقضـوبا

لكن فقدان من اضحى بمصرعه نور الهدى وبهــاء العلم مسلوبــا

ان المنية لم تتلف به رجـــلا بل اتلفت علمـا للديــن منصوبــا

اهدى الردى للثــرى اذ نال مهجته نجما على من يعادي الحق مصبوبا

كان الزمان به تصفـو مشاربه فالان اصبح بالتكدــير مقطوبــــا

كــلا وايامه الغر التي جــعلت للعـــلم نورا وللتقوى محاريبــا

لا ينسري الدهر عن شبه له ابدا ما استوقف الحج بالانصاب اركــوبا

اذا انتضى الراي في ايضاح مشكلة اعــاد منهجها المطموس ملحوبا

لا يولج اللغـو والعــوراء مسمــعه ولا يقارف ما يغشيه تانيبــا

تجــلو مواعظـه رين القلوب كما يجلو ضياء سنا الصبح الغياهـيبا

لا يـامن العجز والتقصـير مادحه ولا يخاف على الاطناب تكــذيـبا

ودت بقــاع بلاد الله لو جعلت قــبرا له لحباها جســمه طــيبا

كانت حياـــتك للدنيا وساكنها نورا فاصبح عنها النور محجوبــا

لو تعلم الارض من وارت لقد خشعت اقطارها لك اجــلالا وترحيبا

ان يندبوك فقد ثلت عروشــهم واصبح العلم مرثيــا ومندوبــا

ومن اعاجيب ما جاء الزمان به وقد يبــ،ين لنا الدهــر الاعاجيبا

ان قد طوتك غموض الارض في لحف وكنت تملا منها السهل واللوبا

وقال ابو سعيد بن الاعرابي:

حدث مفظع وخطب جليل دق عن مثله اصطبار الصبور

قام ناعي العلوم اجمع لما قــام ناعي محمد بن جرير