رمضان شهر صيانة وصياغة

 


فهو صيانة للروح وللجسد من عام مضى..وهو صياغة جديدة لهما في عام مقبل
فكما أن الماكينة تحتاج إلى فترة صيانة .. فكذلك الإنسان وتحتاج أيضاً لصياغة لتنقى وتتشكل بما يزيد من قدرها وقيمتها مثل الذهب .

فالله تعالى من حبه لخلقه وحرصه على أن يحيوا سعداء في دنياهم ثم آخرتهم جعل لهم شهر رمضان ليكون إليهم تنقية للفطرة تنقية للصفات الطيبة في النفس ..صفات المحبة والتعاون والإقدام والإنتاج والإتقان وغيرها ..تنقيتها مما قد دخل إليها بفعل وساوس الشيطان واتباعها له كصفات الحقد والحسد والغل والأنانية والكراهية والكسل والإهمال وغيرها من أمراض .

فهو شهر من أجل العودة لكل خير ..عودة للأصول ..عوده لسلامة القلوب ولقوة النفوس .. عوده لله تعالى مصدر كل قوة و خير ..عوده لدستور الحياة والأساس الذي يُستـَقـَى منه نظامها ؛ للقرآن .. عودة لنظام الإسلام وأخلاقه عودة لحُسن العلاقات مع الآخرين .

ثم إضافة لكونه صيانة، فهو صياغة جديدة لحياتك في عامك القادم .. هو تدريب وتجهيز لما أنت مُقبل عليه ..تدريب على قوة الارتباط بالله .. ..تدريب على قوة الإرادة للعقل والنفس ...تدريب على استصغار الشيطان واحتقاره وسحقه وهزيمته ..تدريب على المحافظة على نقاء القلب وألا يدخله أي شيء أو صفة سيئة .. تدريب على المحافظة على أخلاق الإسلام الحسنة مع كل الناس ومقاومة أي خُلُـُق سيء .. تدريب على استحضار نوايا الخير في كل عمل في كل مكان ومع كل إنسان ، مع الوالدين مع الإخوة والأخوات والجيران والأقارب والزملاء والمعارف وأهل الحي ، في البيت والنادي والشارع والمسجد والمدرسة والجامعة وفى كل مكان حتى يظل المسلم بذلك دائم الشعور بأنه دائم التواصل مع ربه ودينه طوال يومه ثم طوال حياته .

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم موضحاً ما سبق : " إذا جاء رمضان فـُـتـَـّحـَتْ أبواب الجنة وغُلـَـّـقـَت أبواب النار وصُـفدت الشياطين (أخرجه البخاري ومسلم ) فمن كثرة الخير لم يعد لوساوسها أي تأثير !
أخي الحبيب ، إليك بعض النصائح التي تعينك على الصيانة والصياغة :

فأما نصائح الصيانة فأهمها :

1-الخلوة والمراجعة : فمراجعة النفس برفق وود ، بمفردها أو مع من تثق فيه ، سرا ً أو علنا ً، هو بداية تصويبها يقول تعالى منبهاً لأهمية هذا: " اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ"

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أ َتــبــَعَ نفسه هواها وتمنىّ َ على الله " ( أخرجه الترمذي ) ,وهذا الحسن البصري يشيع جنازة رجل، فيأخذ بيد رفيقه ويهمس له:

ماذا يفعل هذا الميت إذا عاد إلى الحياة؟! فيرد عليه صديقه مبينًا أساه وتأثره: يكون أفضل مما كان قبل أن يموت!؛ فقال الحسن: فإن لم يكن هو، فكن أنت!. نعم كن أنت ..

2-الاستغفار : فهو يمحو أي خطأ سابق ويصلح أي خلل ..
كما يقول تعالى حتى عن الكفار : " قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ "
فما بالنا لو استغفر المؤمن وانتهى !! وكما يقول صلى الله عليه وسلم : " إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإذا هو نزع واستغفر الله وتاب صقل قلبه.." ( جزء من حديث أخرجه الترمذي )

3-الدعاء : فهو كالاستغفار ، بل أكثر نتيجة ، كما يقول صلى الله عليه وسلم :" قال الله تعالى يا بن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي .." ( جزء من حديث أخرجه الترمذي )

4- الذكر : فهو يوقظ أي غافل .. كما يقول تعالى : "وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ "

ويقول " واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون " ويقول " ولذكر الله أكبر " ... وهو يحيي بعد ممات ونسيان , كما يقول صلى الله عليه وسلم : " مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت " ( أخرجه البخاري ) .


5- التّـدبُّــر : في مخلوقات الله وأرزاقه ورحماته .. فهو يحرك القلوب والعقول, فيحرك العقل بدوره الإيمان الفطري الموجود أصلاً في كل إنسان , فيبدأ في التخلص مما فيه من سوء .

يقول تعالى موضحاً أن التدبر يحرك العقل : " إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب " .

6- إحسان الصلاة : فروضاً و سنناً ,
يقول صلى الله عليه وسلم " ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي فيستغفر الله إلا غفر الله له , ثم قرأ : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم , ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) " ( أخرجه البخاري ومسلم ) .

7- الإكثار من الحسنات بكل أنواعها : فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً أصاب من امرأة قُبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره , فأنزل الله تعالى : " وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات " فقال الرجل : ألِي هذا يا رسول الله ؟ قال : " لجميع أمتي كلهم " ( أخرجه البخاري ومسلم ) .

** وأما نصائح الصياغة الجديدة لحياتك فأهمها :

*- إحسان الصوم : فهو سيدربك على قوة إرادة العقل والنفس فلا يتّبعان مستقبلاً إلا كل خير , وسيقاومان كل شر , يقول الرسول صلى الله عليه وسلم منبهاً لأهمية إحسان الصوم : " الصيام جُنّة " (جزء من حديث أخرجه البخاري) أي وقاية ... فكما تصوم عن الأكل والشرب تصوم أيضاً عن كل حرام بلسانك أو نظرك أو يدك أو رجلك , حتى تتربى إرادتك وتقوى.

*- الارتباط بالقرآن : فهو المرجع الذي سيوجهك دائماً لكل خلق حسن تسعد به في حياتك وآخرتك , يقول تعالى : " إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم " ويقول : " ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين " , فالهدى والرحمة والبشرى هي السعادة في الدنيا ثم في الآخرة .

*- التدريب على الإخلاص واستحضار نوايا الخير لكل عمل : فالصيام من أفضل ما يدربك على الإخلاص , فلا أحد يعلم هل أنت صائم أم لا إلا الله خالقك وعالم خباياك , فيمكنك أن تكون مفطراً وأمام الناس صائماً , وما منعك من ذلك إلا حبك له سبحانه وتعالى , وحرصك على تنفيذ أوامره والتي ما طلبها من خلقه إلا لمصلحتهم ولسعادتهم , وطلباً لحبه ولعونه ولرزقه ولتوفيقه ثم لأعظم ثوابه في الآخرة .
فإذا ما تدربت لفترة شهر رمضان على الإخلاص , أمكنك بإذن الله الاستمرار عليه بقية العام , فكل عمل تعمله بعد ذلك أثناء أكلك وشربك ونومك ولبسك وعلمك وعملك وإنتاجك وترويحك الحلال وعلاقاتك الجيدة مع الآخرين , كلها تعملها لله , فتحيا في الدنيا سعيداً ثم أسعد حين تنال أعلى درجات الجنات .

لقد عبّر الله تعالى عن أن الصوم مصدر أساسي لتعلّم الإخلاص , لأنه لا يعلمه أحد إلا هو , وذلك في قوله : " كل عمل ابن آدم له , إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به " ( جزء من حديث أخرجه البخاري ومسلم ) , وقوله في آخر آية الصيام : " لعلكم تتقون " .

*- التدريب على الأخلاق الحسنة : وأهمها حفظ اللسان عن كل قول سيء وغض البصر والصدق والأمانة والإتقان والتعاون والعدل والتنظيم والتخطيط لكل شؤون الحياة .
يقول صلى الله عليه وسلم موضحاً أن الصيام هو البداية لكل هذا : " ... فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب , فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إني صائم " ( جزء من حديث أخرجه البخاري ومسلم ) .

.... فإن قمت أخي الحبيب في شهر كامل كرمضان بتطهير نفسك مما فيها بالاستغفار والدعاء والذكر والمراجعة والتدبر والإكثار من الحسنات , وقمت بالتدريب على الارتباط بالقرآن وقوة الإرادة والإخلاص واستحضار النوايا والتمسك بالأخلاق الإسلامية الحسنة ... ثم قمت بالاستمرار على ذلك بعد رمضان لبقية العام ... سيأتي رمضان الذي بعده وصيانتك لنفسك ستكون أسهل وصياغتك لحياتك بعده أسهل ... ثم رمضان الذي بعده أسهل وأسهل ..... حتى يأتي يوم بإذن الله تمشي فيه على الأرض وليس عليك ذنب !! ويكون رمضان بالنسبة لك فقط رفعاً لمزيد من الدرجات لا تكفيراً عن أي سيئات .
 

من موقع عمرو خالد