>> صفحات خاصة >>
القضية الفلسطينية
بقلم: سـوسـن البرغوتي
الجدة تتابع الأخبار ولا يفوتها أدق التفاصيل، وبعد كل خبر تبدأ بالتحليل والدعاء
على آل صهيون، الذين سرقوا منا الأرض الطاهرة، واعتدوا على الشعب العربي المسلم
الأصيل الآمن.
الغريب في الأمر أن الجدة لا تسمح مطلقاً لأي كان أن يُشاركها التحليل، على اعتبار
أنها تستعرض ما فات وكأن التاريخ يُعيد نفسه، منذ أن كانت والدتها تروي للصغار قصص
الثورات ضد الاحتلال الإنكليزي بعد اقتسام غنائم الحرب العالمية بين المنتصرين. بعض
تلك الحكايا تتكرر يومياً حسب ما تقتضيه الحاجة لاستدعاء صور المقاومة الباسلة في
التصدي لعدو لم يبرح أرض فلسطين، وإنما تغيّرت مبرراته وأسباب احتلاله. لكنها تُصر
على أن أسوأ وجوه الاستعمار هو الذي ينزع الهوية ويلغي وجود الشعب!
ذاكرتها تخونها في كثير من التفاصيل والدقة في النقل، لكنها مازالت تذكر زعم أحد
الصهاينة، بأن الخاتم الصهيوني يُناسـب اليد الفارغـة، "وأن تلك الأرض خاليـة من
الشـعب"، ثم تعود من القهر تُطلق الزفرات، وتقول إن السبب في نكبتنا الجيوش العربية
النظامية، التي تخلفت لتخلصنا من المحتل البريطاني، فإذا بها تُسلمنا لقمة سائغة
لعصابات (الهاجانا). تعود بالذكريات إلى الوراء، وتُسهب في وصف رحلة البؤس إلى بنت
جبيل، ومن ثم إلى دمشق، حيث بدأت النكبة تتجلى بكل ما في الكلمة من معنى، وتُكمل
بسرد الأمثال الشعبية، التي تُجسد حالة الشقاء بعيداً عن الوطن، مهد الأنبياء.
بعد كل نشرة أخبار أو برنامج عن فلسطين، تستغرب كيف يُصورون ما آلَ إليه حالنا
وتستهجن كيف أصبحت "قضيتنا إنسانية"، وتحوّل الفلسطيني إلى حالة، تستدعي التعاطف
فقط.
هي تنتظر العودة إلى أجمل ذكرياتها، تتكيء على أكتاف الماضي وتجمع ما تبقى من الصور،
وتُعيد رسم زوايا بيت العائلة على سفح الجبل، وكيف أن الزوج حمل سند الملكية (الطابو)
ومفاتيح البيت وهو كل ما حمله معه، عندما قيل له رحلتك قصيرة وستعود!
تحصد المرارة كعويل الرياح تلف كل ما حولها ويسود الصمت. يتدحرج الدمع على خدها، ثم
تبتسم متسلحة بالإيمان وتقول: الله أكرم الأكرمين، وهو ولي الصابرين.
هذه الأيام اختلفت أحاديثها، ويمتلكها شعور أن موعد العودة قد اقترب. لا أعرف كيف
تسرب الأمل، وهي تتابع وتشاهد وتعرف أنها لن تعود أبداً.
حاولت أن أفهم ما يدور بخلدها، فاستجابت فوراً وعلى غير عادتها، واستطردت بالحديث
قائلة: لنا سلطة وحكومة وأنهم توحدوا واتفقوا الحمد لله، وخلال أسبوع ستكون الأحوال
على ما يُرام.
فما كان لي إلا أن أوافقها وأردد: إن شاء الله.
بدأت المسكينة بتجميع حاجياتها البسيطة، وتستعد للسفر، وكان لا بد لي أن أهدىء من
حماسها ورغبتها الملحة بالرجوع، مشاعر لا تلبث إلا أن تتحول سريعاً إلى خيبة أمل من
جديد، وهي تُصارع الزمن بتقدم العمر. حاولت أن أستجمع شجاعتي، وأشرح لها ما يحدث
وأنه أمر داخلي لا علاقة لأهل المنافي به، سوى محاولة توحيد الصفوف بالداخل، وكسر
الحصار وانتزاع حق الفلسطينيين باسترجاع الضفة وقطاع غزة، أما عن فلسطين الداخل،
فهي الآن أصبحت لـ (إسرائيل) وباعتراف الدول الظالمة، وبقبول لواقع أمرّ. رفضت
تقبله، واعتبرت ما أُحدثها به هو من باب الحرص عليها من مشاق الرحلة. وبمنتهى
اللامبالاة قالت:
ـ إن كنتِ لا تريدين الرجوع، فهذا شأنك، أما أنا عازمة وقررت الرحيل.
صمتت طويلاً ثم عادت لتسأل، هل سنعود إلى فلسطين؟
بدأت أفقد الصبر ولم أعد أحتمل مجاراتها ولا أعرف من أين حصلت على التفاؤل المفاجىء،
وقررت أن أُصارحها وبشكل قاطع، حتى لا تُكرر في كل يوم، السؤال الذي يحول نهاري إلى
مزيد من النكد والاستهزاء من كل أحلامنا، فقلت لها، يا جدتي المشوار طويل وما أخذوه
لن يُعيدوه لنا في يوم وليلة.
وبملامح واثقة ردت: طبعاً، فالمقاومة لقنتهم دروساً ولن ينعموا بالحياة الهادئة في
بلادنا أبداً.
ـ لكن هناك دعوة لوقف إطلاق النار بين الجانبين.
ـ أي جانبين؟ نحن أصحاب حق وهم غزاة، واستوطنوا بأرضنا، وطردونا منها، وأن نسترجعها
لا بد من الجهاد والنضال، ورفعت يدها ملوحة بشارة النصر!
ـ الهدنة يا جدتي حتى يتسنى للمباحثات بشأن حل الدولتين أن يتحقق.
حملقت واتسعت حدقة عينيها، وبدأت ملامح الغضب تطفو على قسمات وجهها الهادىء، وكأني
عدو ثم علا إيقاع الصوت وقالت:
ـ أي دولتين وأي تخاريف؟
ـ ألا تسمعين وأنت المطلعة على الأخبار والأحداث لحظة بلحظة؟ هذا كلام للعامة،
والحقيقة أننا عائدون.
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله، يا جدتي يُريدون تعويضنا عن ممتلكاتنا وأراضينا.
ـ طبعا، فنحن تحملنا طيلة سنوات التشرد الكثير من المعاناة.
هنا أيقنت أن الخرف بدأ يخط ملامحه، وداعبتها قائلة:
ـ وماذا ستفعلين بالمال؟
ـ سأبني بيتي هناك من جديد، وأجمع شمل أبنائي، ونزرع الأرض وتضحك لنا الحياة من
جديد.
ـ لكن التعويض ليس من أجل أن تعودي، بل لتبقي حيث أنتِ!
وقفت فجأة وتركتني أُكمل حديثي، ودون أن تلتفت ولا تتفوه بكلمة واحدة. وبعد أن خلدت
للنوم والراحة، صلت ولبست ثوبها الفلسطيني الأبيض المزركش بالخيوط الملونة، وما أن
حان وقت الأخبار في المساء، وبشرود الذهن والذهول، أكملت النشرة، دون أن تُعلق
وتُحلل كعادتها.
ظننت أنها اقتنعت بكلامي، وأوكلت أمرها لله، فنظرت لها وابتسمت مداعبة، كيف حال
جدتي الآن؟
لم تتكلم، وواصلت رحلة الشرود، إلا أن عقارب الساعة توقفت فجأة ورحلت إلى حيث
اللاعودة...
هل قسوت عليها، أم أنها تُعيد ترتيب أفكارها من جديد للتتأقلم مع ما بقي لها من
العمر، وأيقنت بعد كل تلك السنين أن أحلامها تتبخر، وأنها لن تعيش الحلم ثانية،
ولربما قضت عليها سياسات المعتدلين، حيث لا مكان للأمنيات في أجندتهم، وبمنظور
ورؤية الحلول المتاحة من أجل إنقاذ ما تبقى.
وفي اليوم التالي، برعم يتفتح على مدارج المستقبل، جاءتني ابنتي تبكي رحيل الجدة،
تسألني، متى سنعود إلى فلسطين...؟
النصوص والمشاعر وليدة لحظات ترقب وقلق هواجس ومخاوف، قد تتبدل وتتغير بلمح البصر،
وتنقشع الغيوم الملبدة بالسوداوية والغموض مع إشراقة فجر يحمل بشارات العودة إلى
الحلم مجدداً، فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل...