انتهى موسم الحج وعاد الحجيج إلى ديارهم فرحين بما آتاهم الله من فضله، وهم في ذلك
أصناف:
-
فمنهم من بدأ حياة جديدة حيث عاهد الله عز وجل على الاستقامة، وأمسك بتلابيب هذا
الميلاد الجديد، وعزم على عدم العودة إلى ما كان عليه قبل الحج من غفلة وعصيان، بعد
أن استشعر حلاوة التوبة وفاز بالمغفرة، وانطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
"..عاد كيوم ولدته أمه".. الحديث.
-
ومن الحجيج من كان حجه فضلاً على فضل، وزاده إيماناً على إيمان، وهؤلاء هم خير
الحجيج.
-
أما الصنف الثالث من الحجيج فهم الذين اتخذوا من حجهم مجرد صحوة إيمانية أعقبتها
غفوة لا يلبثون أن ينكثوا بعدها عهدهم مع الله ويعودوا لما كانوا عليه من ذنوب
ومعاصي!!
الفريق الأول والثاني تعلم من مدرسة الحج، فالحج موسم التوبة وتجديد العهد مع الله،
وما النداء "لبيك اللهم لبيك" إلا كلمات معاهدة بين الله وعبده.. وتقع المعاهدة
دائمًا في بداية أمر ما، فهي ليست نهاية له. وهكذا عبادة الحج، فمن يعود بعد أداء
مناسك الحج فقد رجع بعد عقد معاهدة مقدسة مع ربه، ويجب عليه ألا يخلد لحياته على
سابق عهدها قبل الحج، بل يجب عليه أن يبدأ العمل طبقا لما عاهد عليه ربه. فالعودة
من الحج عودة من مقام العهد إلى مقام العمل، ولا تنتهي مسؤوليات الحاج بعد الانتهاء
من الحج بل تزداد وتكبر في حقيقة الأمر .
وما هي معاهدة الحج؟ إنها إقرار باستعداد العبد لتكرار الحياة الإبراهيمية. فحين
شاهد إبراهيم عليه السلام أهل الشرك لا يصغون لكلامه حول التوحيد والآخرة وضع خطة
جديدة لعمله بأن أخضع نفسه وأسرته لأشد التضحيات فأنشأ نسلاً جديداً، لقد حوّل
إبراهيم عمل الدعوة إلى خطة عظيمة، وقام بكل ما كانت هذه الخطة تقتضي منه من تضحيات.
وهكذا يجب على الإنسان أن يقوم اليوم بكل ما تقتضيه الظروف، وأن يظل صابراً على هذا
الدرب إلى أن تحين منيته، أو أن يصل إلى هدفه المنشود.
فإذا كان الأذان بالحج في عهد إبراهيم عليه السلام ضرورة إيمانية يفرضها واقع تفشى
فيه الشرك فإن عالمنا المعاصر عاد القهقري في مدارج الإيمان، وأطلق الشهوات
والغرائز، وتبجح الشرك الظاهر والخفي، مما يفرض دوام دعوة إبراهيم عليه السلام التي
جددها النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا يتجدد الإيمان مع الحج.
وواجب العائدين من الحج اليوم أن يعملوا على القضاء على عصر الضعف والذل والهزيمة،
وإحياء عصر التوحيد والقوة من جديد، وإعلاء كلمة الحق عز وجل، عملاً بالأسوة
المحمدية والإبراهيمية، وعليهم أن يضحّوا في هذا السبيل بكل ما تقتضيه الأحوال منهم،
فيجب عليهم أن يحوّلوا التضحية الرمزية إلى تضحية حقيقية .
إن الحج عزم على إعادة هذا التاريخ بصورة رمزية في أيام الحج، وبصورة عمل مخطط في
الحياة الحقيقية بعد انقضاء أيام الحج.