يقول النبي
في حديث جميل جداً: (إن الله يفرح بتوبة عبده)
ثم يضرب النبي مثلاً على هذه الفرحة فهي أكثر من فرحة رجل يمشي في الصحراء ومعه
ناقته عليها طعامه وشرابه وفي وسط الصحراء جرت منه، فأيقن الرجل بالهلاك والموت
بينما هو كذلك حفر لنفسه حفرة وقرر أن ينام فيها من شدة اليأس.. تخيل حالة اليأس
التي هو فيها.. حالة اليأس التي يكون فيها العاصي والذنوب قد ملأت حياته، فبينما هو
كذلك إذا بالناقة فوق رأسه عليها طعامه وشرابه، فمن شدة فرحته يريد أن يشكر الله
فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك! فقد أخطأ من شدة الفرح، يقول النبي
:
(فالله أفرح بتوبة أحدكم إذا تاب من هذا الرجل)
فرحة ليست كفرحة البشر.. سبحانه وتعالى ((..لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) (الشورى:11)،
إن فرحة الله بتوبتك هي أكبر من فرحتك أنت بتوبتك، ولله المثل الأعلى لأنك عندما
تتصدق بمال تكون فرحتك أكثر من فرحة من تصدقت عليه لانشغاله بما أخذ منك ولا يدرك
فرحتك أنت به، وكذلك فعند التوبة يكون هناك في القلب انكسارة خجل وألم.. فلا شيء
أحب إلى الله من هذه الانكسارة في قلب التائب لأنها حققت قمة العبودية لله سبحانه
وتعالى.
إن
التوبة تنقلك إلى أعلى درجات القرب من الله ففي اللحظة التي تتوب فيها تكون حبيبا
للرحمن، وهناك أمر يشجعك على التوبة فإبليس اللعين عندما رفض أن يسجد لآدم وطرد من
الجنة قال: وعزتك وجلالك لأغوينهم مادامت أرواحهم في أجسادهم، فقال له الله:
((وعزتي وجلالي لأغفرن لهم ما داموا يستغفرونني))..
فلتتوبوا له.
إن
التواب يطلب منك تقليل نقاط الضعف في حياتك وإصلاحها والشكور يُعظم فيك نقاط القوة،
وللتوبة دور آخر ففي اللحظة التي تتوب فيها تكون قد عرفت الله سبحانه وتعالى فلن
تتوب إلا وقد عرفت أنه عظيم وأنه منتقم وأنه رحيم وأنه غفور فقد عرفته بأسماءه
الحسنى كلها في اللحظة التي تتوب فيها.
ومن
الممكن أن تسأل لِمَ لمْ يعصمنا الله من البداية؟! إن الرب هو الذي يربي عباده،
الرب سبحانه وتعالى خبير بك فلو أن حياتك بلا ذنوب وكلها طاعة فسوف تصاب بالعُجب
ورؤية الذات كما حدث مع إبليس فكفر، فالله سبحانه وتعالى برحمته لم يعصمك من
الذنوب. يحكي ابن القيم في أثر جميل كي تفهم لماذا لم يعصمنا الله. وهو عندما أكل
آدم من الشجرة ونزل من الجنة وكان يبكي فقال له ربنا:
(يا آدم.. إذا عصمتك وعصمت بنيك فعلى من أجود برحمتي ومغفرتي وعفوي وحلمي وأنا
التواب الرحيم، يا آدم.. كنت تدخل علينا في الجنة دخول الملوك على الملوك والآن
تدخل علينا دخول العبيد على الملوك وذلك أحب إلينا، يا آدم.. ذنب تتذلل به إلينا
أحب إلينا من طاعة ترائي بها علينا، يا آدم.. أنين المذنبين أحب إلينا من تسبيح
المرائين، يا آدم.. لا تحزن أنني قلت لك اخرج فلك خلقتها ولكن انزل إلى الدنيا
وابذر بذر التقوى وأصلح في أرضي حتى إذا اشتقت إلى الجنة تعالى لأدخلك إياها).
هناك معنى آخر جميل جداً يحببك في التوبة أكثر وأكثر، فاسم الله التواب له علاقة
باسم الله الرحيم، فالتوبة دائماً تذكر مع الرحمة، وقبل ذكر العلاقة فبماذا تحب أن
يعاملك الله؟ بعدله أم برحمته؟ إن كان بعدله فسيتركك تعمل ما تشاء في الدنيا ويوم
القيامة يواجهك بخطأك ويرميك إلى النار ولكن برحمته يهديك إلى التوبة.. وقد يكون
ذلك بإشارة خفيفة أو بمصيبة أو ابتلاء إن لم تكن سريع الفهم، اسمع هذه الجملة
واحفظها: إما أن تذهب إلى الله راكضاً أو يأتي بك راقداً. كل هذا كي أربط التواب
بالرحيم، وهو يبدأ معك بأن يحببك في التوبة وأنا لي صديق طبيب ومتدين يحكي لي أنه
قد ذهب ليفحص مريضة سكر وبعد انتهاءه أصرت أن يوصله ابنها، وفي الطريق بدأ يسأل
الابن عن صلاته وعن بعض الأمور الدينية فرد عليه بأن الصلاة هي كلام فارغ! فقال له
الطبيب ألا تخاف من النار؟! فأجابه أن أهل النار هم أحسن ناس!! فغادر الطبيب
السيارة، وبعد عام ذهب صديقي مرة أخرى ليفحص المريضة بعد أن طلبت منه ذلك فذهب
إليها وعند مغادرته طلبت منه أن ينتظر كي يوصله ابنها فرفض ذلك بشدة فقالت له إنه
يصلي العشاء بالمسجد وسيأتي فورا! فقرر أن ينتظره وفي الطريق سأله ما الذي حدث؟
فقال له أنه عمل في شركة سياحة تنظم رحلات حج وعمرة وقد كان مع أحد الأفواج وقد
ذهبوا هم ليعتمروا وظل هو بالفندق وحده وكلما أقدم على فعل أي حرام لم يجد الفرصة
فقرر أن يذهب كي يرى الكعبة لأول مرة في حياته وكان اليوم هو الأول من شعبان في
الصباح الباكر وهو يوم غسل الكعبة وفتح بابها، وهو يقف يتفرج فجاءه واحد من آل شيبة
وهم أناس كرام عندهم مفتاح الكعبة وقال له أتحب أن تصلي داخل الكعبة؟! فمن الذي فعل
هذا؟! فأحرج منه الشاب ودخل داخل الكعبة يقول: كأني أغسل من جديد وأخلق من جديد،
يقول دخلت فاسق جاحد خرجت مؤمن موحد أقول تبت يا رب تبت يا رب.. أرأيت كيف أتى به؟
بعد كل هذا الكلام هل تريد أن تتوب؟ هناك آيتين جميلتين جداً، آية تقول:
((..ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا..))
(التوبة:118) فقد سبقت توبة الله توبة العبد، والآية الثانية:
((إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا
فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ..)) (البقرة:160).. فالآية
الأولى وُفق للتوبة فتابوا والآية الثانية قبل التوبة.. فمنه وإليه، فهو يحملك على
التوبة فتتوب فيقبل التوبة.. ولكن هو من وفق لها بداية مثل ما حدث مع آدم فعندما
أكل آدم من الشجرة كان يجري في الجنة ولم يكن قد تعرف على الله التواب ولا يعرف كيف
يسامحه، تقول الآية: ((فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ
كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ..)) (البقرة:37) قال له قل يا آدم:
((..رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ
لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ)) (الأعراف:23)
فقالها فقال له: تبت عليك.. فهو الموفق للتوبة أولا والقابل لها ثانياً.
>>>>>>>>>>>>>>>>>><<<<<<<<<<<<<
شروط التوبة:
للتوبة بينك وبين الله ثلاثة شروط وتستطيع فعلهم وأنت جالس الآن بقلبك:
1. الندم، يقول النبي: (التوبة الندم)..
فبدون الندم لا تقبل التوبة.
2. التوقف عن الذنب.
3. العزم على عدم العودة.. لا يمكن أن أبيع دنيتي بآخرتي، إن الدنيا كفقاعة
صابون بجوار جوهرة ثمينة، أو كمن في جيبه عشرة ريالات ويعرض عليك شيك مفتوح مكتوب
عليه ((لَهُمْ مَا
يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)) (ق:35). لقد وردت قصة لطيفة في
الأثر عن موسى عليه السلام فقد ظل سبعون ألفا من بني إسرائيل في القحط الشديد ولا
ينزل المطر ويكادون أن يموتون من العطش والبهائم كذلك، فوقف موسى يدعو وقال لهم
نخرج للاستسقاء وصلوا صلاة الاستسقاء، وظل يدعو ويدعو والمطر لا ينزل، فقال: يا رب
عودتني الإجابة فلم ينزل المطر، فأوحى إليه الله: يا موسى لن ينزل المطر لأن بينكم
عبد يعصاني منذ أربعين سنة وهو يعصاني فبشؤم معصيته منعتم المطر من السماء.. هل
عرفتم مصائبنا وأحوال بلادنا ما سببها؟.. فقال موسى: يا رب فماذا نفعل؟ قال: أخرجوه
من بينكم لينزل المطر، فقال موسى لبني إسرائيل: بيننا رجل يعصي الله أربعين سنة،
فأخرجوه من بينكم لينزل المطر. إن الرجل يعرف نفسه فقال يا رب: أنا إن خرجت فضحت
وإن بقيت منعنا من المطر ومتنا، ماذا أفعل؟ ليس لدي غير أني أتوب إليك وأعاهدك ألا
أعود فاسترني وأنزل المطر.. فنزل المطر من السماء، فقال موسى: يا رب نزل المطر ولم
يخرج أحد! فأوحى إليه الله: يا موسى نزل المطر لفرحتي بتوبة عبدي الذي يعصاني منذ
أربعين سنة، فقال موسى: يا رب دلني عليه لأفرح به، فقال له الله تبارك وتعالى: يا
موسى يعصاني أربعين سنة وأستره، أيوم يتوب إليَّ أفضحه؟!.
هناك شرط رابع للتوبة: وهو إن كنت قد أكلت حقاً من حقوق الناس فلابد أن تُعيده،
ومهما تبكي فلابد من إعادة حقوق الناس، ولكن عند الغيبة لا تخبروا الأشخاص الذين
اغتبتموهم.. ادعوا لهم كي لا يتغيروا من ناحيتكم.
>>>>>>>>>>>>>>>>>><<<<<<<<<<<<<
أحلى يوم في
حياتك..
لقد تخلف سيدنا كعب بن مالك عن جيش المسلمين في تبوك وأمر النبي بخصامه خمسين يوماً
واشتد تعبه، وبعد الخمسين يوم نزلت آيات التوبة في سورة التوبة بتوبة الله عليه،
فخرجت الناس تنادي عليه: يا كعب أبشر.. تاب الله عليك، يقول: فخرجت من بيتي يتلقاني
الناس في الطريق أفواجاً يقولون لي مبروك توبة الله عليك يا كعب، حتى دخلت المسجد
فرأيت النبي فاستنار وجهه من الفرحة بي كأنه قطعة قمر وقال لي: تعال، فذهبت أمشي
بين يديه وأنا خجلان، فقال: اجلس فجلست، فقال لي: أبشر يا كعب بخير يوم طلع عليك
منذ ولدتك أمك.. تاب الله عليك.
وأخيرا..
ماذا
لو عدت للذنب؟ يقبلك إن تبت مرة أخرى وثانية وثالثة، ((أذنب عبد ذنبا فقال: يا رب
أذنبت فاغفره لي، فقال الله: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب قد غفرت
لعبدي، ثم عاد فأذنب ذنباً فقال الله: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب
قد غفرت لعبدي، ثم عاد فأذنب ذنباً فقال الله تبارك وتعالى فليفعل عبدي ما شاء
مادام يستغفرني ويتوب إليَّ)). ولكن أحياناً عندما تذنب مرات عديدة تشعر بحاجز وأنك
تستطيع التوبة وتشعر بالخجل فيقول لك التواب اعمل حسنة كي تكسر حاجز الخجل
((..إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ..))
(هود:114) و (أتبع السيئة الحسنة تمحها)
ولهذا كان شهر رمضان كي تعمل الحسنات وتكسر الحاجز فتتوب.. إن رمضان شهر توبة،
وأقسمت عليكم أن تعبدوا التواب الليلة فهذه الحلقة حجة عليَّ وعليكم يوم القيامة.
>>>>>>>>>>>>>>>>>><<<<<<<<<<<<<
أعدتها: يسرا عبد
الجواد
Amrkhaled.net© جميع حقوق النشر محفوظة