سورة يوسف (مكية)، نزلت في توقيت مقارب لنزول السورتين اللتين قبلها، يونس وهود،
وفي نفس الظروف. وهي أطول سورة تحتوي على قصة في القرآن، فقد احتوت على قصة سيدنا
يوسف عليه السلام من بدايتها لنهايتها. عدد آياتها 111 آية.
أحسن القصص
قال عنها علماء القصص أنها احتوت على جميع فنون القصة وعناصرها، من التشويق، وتصوير
الأحداث، والترابط المنطقي، واستخدام الرمز.
فعلى سبيل المثال، نجد أن هذه القصة قد بدأت بحلم رآه سيدنا يوسف عليه السلام
وانتهت بتفسير ذلك الحلم. ونرى أن قميص يوسف الذي استُخدم كأداة براءة لإخوته، كان
هو نفسه الدليل على خيانتهم... هذا القميص استُخدم بعد ذلك كأداة براءة ليوسف نفسه،
فبرَّأه من تهمة التعدي على امرأة العزيز!!
ومن روعة هذه القصة أن معانيها وأحداثها متجسِّدة أمام قارئها وكأنه يراها بالصوت
والصورة، وهي من أجمل القصص التي يمكن أن تقرأها ومن أبدع ما تتأثر به. نحن لا
نحتاج لشهادة علماء القصة فيها، لأن الله نفسه هو الذي يشهد على جودتها وروعتها:
[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَا
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ] (3).
لكن هذه السورة لم تأت في القرآن لمجرد رواية القصص، لأن هدفها يتلخص في آخر سطر من
القصة وهو قوله تعالى: [إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ
فَإِنَّ ٱلله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ] (90).
فالمحور الأساسي للقصة هو:
يعلم ولا نعلم
إن هدف سورة يوسف هو إعلامنا أن تدبير الله تعالى للأمور يختلف عن النظرة البشرية
القاصرة، وكأنها تقول لنا: (ثِق في تدبير الله، واصبر ولا تيأَس).
إن الأحداث في سورة يوسف غريبة، وهي تسير بعكس الظاهر، فيوسف ولدٌ محبوبٌ من والده،
وهذا الأمر بظاهره جيد ولكن نتيجة هذه المحبة كانت أن ألقاه إخوته في البئر. ومع أن
إلقاء يوسف في البئر هو في ظاهره أمر سيئ، لكن نتيجة هذا الإلقاء كانت أن أصبح في
بيت العزيز. ووجود يوسف في بيت العزيز هو أمر ظاهره جيد، لكنه بعد هذا البيت ألقي
في السجن. وكذلك سجن سيدنا يوسف أمر في غاية السوء، لكن نتيجة هذا السجن كانت
تعيينه في منصب عزيز مصر...
فالله سبحانه وتعالى يخبرنا من خلال قصة يوسف عليه السلام بأنه هو الذي يدّبر
الأمور، وقد تكون نظرة المرء للأحداث التي تصير معه على أنها سيئة، لكن هذه النظرة
قاصرة عن إدراك تقدير الله تعالى وحكمته في قضائه.
أنت عبد فيهما
فإذا مرّت عليك، أخي المسلم، فترات ضيق أو بلاء، فتعلَّم من سيدنا يوسف عليه السلام،
الذي كان متحلياً بالصبر والأمل وعدم اليأس رغم كل الظروف. وبالمقابل، تعلَّم منه
كيف تواجه فترات الراحة والاطمئنان، وذلك بالتواضع والإخلاص لله عز وجل...
فالسورة ترشدنا أن حياة الإنسان هي عبارة عن فترات رخاء وفترات شدة. فلا يوجد إنسان
قط كانت حياته كلها فترات رخاء أو كلها فترات شدة، وهو في الحالتين، الرخاء والشدة،
يُختبر.
وقصة يوسف عليه السلام هي قصة ثبات الأخلاق في الحالتين، فنراه في الشدة صابراً لا
يفقد الأمل ولا ييأس، ونراه في فترات الرخاء متواضعاً مخلصاً لله عز وجل.
بين السورة والسيرة
وكما ذكرنا سابقاً، فقد أنزلت سورة يوسف في نفس الظروف التي أنزلت فيها سور يونس
وهود، أي عند اشتداد البلاء على النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته. هذه الظروف كانت
مشابهة لتلك التي واجهها يوسف عليه السلام.
فسيدنا يوسف ابتعد عن أبيه، والنبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه السورة في
السنة العاشرة من بعثته كان قد فقد عمه أبو طالب وزوجته خديجة. سيدنا يوسف ترك
فلسطين بلد أبيه وذهب إلى مصر وتغرّب عن أهله، والنبي صلى الله عليه وسلم بعد سنتين
من نزول السورة ترك مكة وهاجر إلى المدينة. فسورة يوسف كانت تؤهل النبي لما هو مقدمٌ
عليه من محن وابتلاءات، وتهيء المؤمنين جميعاً لأوقات الشدة التي سيواجهونها خلال
حياتهم، لذلك يقول عنها العلماء: "ما قرأها محزون ٌإلا سُرِّي عنه!!!".
يوسف الإنسان
ومن الملاحظات المهمة أن السورة ركّزت على حياة يوسف البشرية، أي على يوسف الإنسان
لا على يوسف النبي. وتسليط الضوء على يوسف عليه السلام كنبي كان في سورة غافر حين
قال موسى لقومه: [وَلَقَدْ جَاءكُـمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ
بِٱلْبَيّنَـٰتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكّ مّمَّا جَاءكُـمْ بِهِ...] (34).
فتجربة يوسف في هذه السورة هي تجربة إنسانية بحتة، وكانت نهايتها نجاحاً كاملاً في
الدنيا والآخرة: فلقد نجح في الدنيا وتفوّق في حياته عندما أصبح عزيز مصر، ونجح في
الآخرة حين قاوم امرأة العزيز وقاوم مغريات نساء المدينة. فالسورة هي باختصار قصة
نجاح إنسانية. إنها قصة نجاح إنسان صبر ولم ييأس بالرغم من كل الظروف التي واجهها،
والتي لم يكن لإنسان أن يتوقع نجاحه، فمن السجن والعبودية وكراهية إخوته له إلى
الغربة، إلى مراودة امرأة العزيز له عن نفسه، إلى تحمّل الافتراء والاتهامات
الباطلة...
أين المعجزات في القصة؟
وإلى جانب ذلك، نلاحظ أن السورة لم تشر إلى تأييده بمعجزة خلال هذه الظروف التي
واجهته، (قد يرد البعض بأن الرؤيا هي معجزة) لكننا نقول إن أي إنسان قد يرى رؤيا،
ولكن الذي حصل وركّزت عليه السورة أن الله سبحانه وتعالى قد هيأ له الظروف وهيأ له
فرصة النجاح كما يهيَّأ لكل شخص منا (كتعليمه تفسير الرؤى كما قال تعالى:
[وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ
ٱلاْحَادِيثِ] (6))، لكن نجاح سيدنا يوسف كان في الاستفادة من المؤهلات التي
أعطاه الله إياها لينجح في حياته.
(لاَ تَايْـئَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱلله)
إن قصة يوسف قصة نجاح إنسان مرّت عليه ظروف صعبة، لم يملك فيها أي مقوم من مقومات
النجاح، لكنه لم يترك الأمل وبقي صابراً ولم ييأس. وآيات السورة مليئة بالأمل، ومن
ذلك أن يعقوب عليه السلام عندما فقد ابنه الثاني، أي عندما صارت المصيبة مصيبتين،
قال: [وَلاَ تَايْـئَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱلله إِنَّهُ لاَ
يَايْـئَسُ مِن رَّوْحِ ٱلله إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ] (87).
هذه الآية لا تعني أن اليائس كافر، بل إن معناها أن الذي ييأس فيه صفة من صفات
الكفار، لأنه لا يدرك أن تدبير الله سبحانه وتعالى في الكون لا يعرفه أحد، وأن الله
كريمٌ ورحيمٌ وحكيم في أفعاله.
النجاح من الله
ومن عظمة هذا النبي الكريم، أنه حين نجح في حياته ووصل إلى أعلى المناصب، لم تنسه
نشوة النصر التواضع لله ونسبة الفضل إليه سبحانه. فقال في نهاية القصة:
[رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ ٱلْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن
تَأْوِيلِ ٱلاْحَادِيثِ فَاطِرَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ أَنتَ وَلِىّ فِى
ٱلدُّنُيَا وَٱلاْخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِٱلصَّـٰلِحِينَ]...
(101).
وانظر إلى تواضعه في قوله [وَأَلْحِقْنِى بِٱلصَّـٰلِحِينَ]،
وكأن الصالحين سبقوه وهو يريد اللحاق بهم. وهكذا نرى أن سيدنا يوسف نجح في امتحان
السراء بشكر الله تعالى والتواضع لـه، كما نجح في امتحان الضراء بالصبر والأمل...
خلاصة التجربة
ونصل في نهاية السورة إلى قاعدة محورية، قالها سيدنا يوسف عليه السلام بعد أن انتصر
وبعد أن تحققت جميع أمنياته: [إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ
فَإِنَّ ٱلله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ] (90).
إن قصة يوسف تعلّمنا أن من أراد النجاح ووضع هدفاً نصب عينيه يريد تحقيقه فإنه
سيحققه لا محالة، إذا استعان بالصبر والأمل، فلم ييأس، ولجأ إلى الله
[إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ ٱلله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ]
(90). إن سيدنا يوسف - في هذه الكلمات - يلخص لنا تجربته في الحياة، والتي هي كما
قلنا، تجربة إنسانية بشرية.
فمن أراد النجاح في الحياة فعليه بتقوى الله أولاً، واللجوء إليه، والصبر على مصائب
الدنيا لا بل وتحدي المعوقات من حوله والتغلب عليها. إن الصبر المطلوب هنا هو صبر
إيجابي ومثابر، لا يضيع صاحبه أي فرصة لتعلم مهارة ما، لا بل ينتظر كل فرصة تسنح
لـه كما فعل سيدنا يوسف عليه السلام، (فهو استفاد من وجوده في بيت العزيز مثلاً في
تعلم كيفية إدارة الأموال، وهذا سبب قوله بعد ذلك: [قَالَ
ٱجْعَلْنِى عَلَىٰ خَزَائِنِ ٱلاْرْضِ إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ] (55)).
يا شباب، تعلّموا من سيدنا يوسف النجاح في حياتكم العملية، والتفوق في الدنيا
والآخرة، بالعلم والعمل من جهة، وبمقاومة الشهوات والصبر عنها، لتفوزوا بإذن الله
بجنة النعيم.