وبعد أن عرضت كل سور الجزئين 22 و23 محوراً واحداً وهو الاستسلام لله تعالى، تأتي
سورة ص بمعنى جميل: رغم أنك أيها المسلم مستسلم لأوامر الله، لكنك قد تخطئ وتعصي،
والسؤال هو: هل ستعود إلى الله؟ أم أنك ستتكبر وتصر على رأيك.. وهكذا يكون محور
السورة: الاستسلام لله بالعودة إلى الحق دون عناد.
العودة إلى الحق بلا عناد
ولذلك تتحدث السورة عن ثلاثة أنبياء، حصلت أمامهم خصومات أو تسرّعوا في اتخاذ
قراراتهم، لكنهم عادوا إلى الحق بسرعة. وهذه العودة إلى الله من أهم أنواع
الاستسلام لله تعالى، لأن المتكبر لا يعود إلى الحق، وإذا رأى نفسه على خطأ فسوف
يصر على موقفه عناداً واستكباراً. ولذلك فإننا نرى في ختام السورة قصة إبليس، الذي
كان رمزاً للاستكبار والعناد وعدم العودة إلى الله.
عودة داوود
وأول قصة ذكرت في السورة هي قصة سيدنا داوود حين اختصم أمامه خصمان، وقالا له:
[... فَٱحْكُمْ بَيْنَنَا بِٱلْحَقّ وَلاَ تُشْطِطْ
وَٱهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاء ٱلصّرٰطِ] (22) فتعجّل سيدنا داوود في الفتوى وحكم
لأحدهما. لكن عودته كانت سريعة [وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا
فَتَنَّـٰهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ & فَغَفَرْنَا لَهُ
ذٰلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـئَابٍ] (24 – 25).
عودة سليمان
والقصة الثانية هي قصة سليمان بن داوود عليهما السلام: [وَوَهَبْنَا
لِدَاوُودَ سُلَيْمَـٰنَ نِعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ] (30).
وترينا الآيات أيضاً سرعة إنابته: [إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ
بِٱلْعَشِىّ ٱلصَّـٰفِنَـٰتُ ٱلْجِيَادُ & فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ
عَن ذِكْرِ رَبِى حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ] (31-32) فلما رأى أن
الخيل ألهته عن ذكر الله حتى غابت الشمس، قال: [رُدُّوهَا
عَلَىَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِٱلسُّوقِ وَٱلأَعْنَاقِ] (33) فقرر ذبح الخيل
كلها لهذا السبب.
وترينا الآيات مشهداً آخر من مشاهد إنابته عليه السلام: [وَلَقَدْ
فَتَنَّا سُلَيْمَـٰنَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ]
(34).
عودة أيوب:
وأخيراً قصة أيوب عليه السلام حين أقسم أن يضرب زوجته مئة ضربة فقال تعالى
[وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَٱضْرِب بّهِ وَلاَ تَحْنَثْ...]
(44) فعاد إلى الحق، وأوجد الله تعالى له مخرجاً لكي لا يحنث، وأمره أن يأخذ مئة
عود وأن يضرب بها زوجته ضرباً خفيفاً حتى يبر بقسمه دون أن يمنعه ذلك من العودة إلى
الحق.
والملاحظ أن قصص الأنبياء في هذه السورة ركّزت على عبودية الأنبياء وإنابتهم لله
تعالى:
- داوود [وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأَيْدِ إِنَّهُ
أَوَّابٌ] (17) أي كثير الرجوع إلى الله وسريع العودة إلى الحق.
- سليمان: [نِعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ] (30).
- أيوب: [نِعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ] (44).
وهكذا نلاحظ أن معاني العبودية لله والإنابة إليه قد تكررت في السورة بشكل واضح...
إبليس والاستكبار
وفي مقابل الأنبياء الذين أنابوا لربهم، تعرض السورة نموذجاً عكسياً لإبليس:
[فَسَجَدَ ٱلْمَلَـئِكَةُ كُـلُّهُمْ أَجْمَعُونَ & إِلاَّ
إِبْلِيسَ ٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ] (73-74) فكان استكبار
إبليس هو السبب الأساسي لكفره وضلاله. لذلك يواجهه رب العزة بذلك:
[قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ
بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَـٰلِينَ] (75). فماذا كانت
نتيجة ذلك المتكبر؟ [قَالَ فَٱخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ
رَجِيمٌ & وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدّينِ] (77-78).
هذا النموذج الرهيب لإبليس أتى في ختام سورة "ص"، وفي ختام سور الاستسلام لله تعالى،
حتى نقارن بين من كان قدوة في الاستسلام لله، وبين إبليس عدو الله الذي قاده تكبره
وعدم خضوعه إلى الكفر والطرد من رحمة الله...