سورة هود (مكية)، نزلت بعد سورة يونس، وهي بعدها في ترتيب المصحف. وعدد آياتها 123
آية.
ثلاث سور متتالية بأسماء الأنبياء
هناك سور عديدة في القرآن سميت بأسماء أنبياء، ومنها ثلاث سور متتالية: يونس، هود،
ويوسف. هذه السور تجمعها روابط عديدة، فهي أول سور في القرآن سميت بأسماء أنبياء،
كما أنها نزلت بنفس الترتيب الموجود في المصحف، وفي نفس الفترة من المرحلة المكية،
وهي فترة اشتداد المحنة على المسلمين وعلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وهنا لا بد من أن نذكر قاعدة من قواعد القرآن في قصص الأنبياء: فعندما يكون اسم
النبي هو عنوان السورة، فإن هدف السورة مرتبط لا محالة بقصة هذا النبي (كما رأينا
في سورة يونس عليه السلام التي كان محورها التسليم لقضاء الله وقدره، وكانت قصة قوم
يونس مثلاً رائعاً لفهم حكمة الله وتدبيره).
وهناك قاعدة قرآنية أخرى تشعرك بعظمة هذا الكتاب وروعته، وهي أن كل قصة نبي من
أنبياء الله تختتم بآية أو مجموعة آيات تبين لك العبرة من القصة. فإذا أردت أن تعرف
الرسالة الربانية التي تحملها السورة، فاقرأ آخر سطر من قصة النبي الذي سميت السورة
باسمه، قاعدة رائعة تتكرّر بشكل معجزة في القرآن.
زلازل البلاء
نزلت السورة على النبي صلى الله عليه وسلم في أحلك الأوقات وأصعبها، بعد عشر سنوات
من البعثة. الاضطهاد في مكة شديد، والنبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه بالهجرة
إلى الحبشة، وأما من بقي من الصحابة في مكة فقد ظل يتعرّض لشتى أنواع العذاب. أما
رسول الله فلم تكن الظروف التي يمر بها أفضل حالاً من الصحابة، فلقد مات عمه أبو
طالب الذي كان يحميه، وماتت زوجته خديجة بنت خويلد التي كانت تواسيه، وليس هذا وحسب
بل إن النبي توجه إلى الطائف لدعوة أهلها فردوه ورموه بالحجارة ولم يعد أحد من أهل
مكة يدخل في الإسلام ورفضت كل القبائل أن تنصر النبي صلى الله عليه وسلم وأن تقبل
هذا الدين.
ما أشبه الليلة بالبارحة
فالظروف التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله تعالى عليهم
شديدة للغاية، وهي مشابهة كثيراً لما نمر به نحن من شدة على الإسلام والمسلمين. فجو
السورة هذا مفيد جداً للشباب المتدين، فافتح معي عقلك وقلبك لفهم مراد ربنا من هذه
السورة.
فعندما يعيش البشر في الضغوطات التي مر بها الصحابة، أو التي نمر بها اليوم، يصيبهم
أحد هذه الأمور الثلاثة:
1. فقدان الأمل وتضييع الهمم وتوقف السير للإصلاح وترك العمل للإسلام.
2. التهور واللجوء إلى العنف والتصرفات غير المحسوبة من أجل التغيير بالقوة.
3. الركون للأعداء والارتماء في أحضانهم والاستسلام الكامل لهم مع العيش في ظلهم.
ألا ترى مثل هذه الأنواع في مجتمعنا؟ فما الحل؟ وماذا تقول السورة لهؤلاء؟
هدف سورة هود: التوازن
السورة تعالج هذه الظواهر الخطيرة في آية محورية، تخاطب مشاعر المتدينين الذين
يتألمون لما يحدث للإسلام من ظلم، وتخاطب الشباب المحبّ لدينه والمتحمّس لفعل أي
شيء لنصرة الإسلام، لتقول لهم:
[فَٱسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ
تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ & وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى ٱلَّذِينَ
ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ ٱلله مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ
لاَ تُنصَرُونَ] (112 - 113) لقد وردت هذه الآية في آخر السورة بعد أن ذكرت
كل قصص الأنبياء قبلها لتأمرنا بثلاثة أوامر:
أ. الاستقامة: [فَٱسْتَقِمْ]، هي الاستمرار في الدعوة
والصبر. فلا ينبغي على الداعية أن يتوقف عن الدعوة أو أن يفقد الأمل إذا واجهته
المصاعب. والدعوة إلى الاستقامة تعالج المشكلة الأولى من المشاكل التي ذكرناها، وهي
فقدان الأمل وضياع الهمم والتوقف عن الإصلاح.
ب. عدم الطغيان: [وَلاَ تَطْغَوْاْ]، وهذا هو التعبير
القرآني عن التهور واللجوء إلى العنف.
ج. عدم الركون: [وَلاَ تَرْكَنُواْ]، وهذا هو التعبير
الشرعي القرآني عن الركون إلى الأعداء والارتماء في أحضانهم، والاستسلام للحضارات
الأخرى، والتقليد الأعمى، وأن يشعر المرء بفقدان الهوية وعدم الإنتماء لحضارته
ودينه وإسلامه.
"شيبتني هود"
فهذه الأوامر الثلاثة هي العلاج للمشكلات الثلاث التي تصيب البشر حين يواجهون
الأزمات والهزائم والأوضاع الحالكة المظلمة. فالتوازن مطلوب من المؤمن حين تواجهه
الأزمات، دون طغيان وتهور، ودون الركون للأعداء. ويتحقق التوازن بالاستقامة على
الحق كما أمر والاستمرار في طريق الدعوة والإصلاح رغم كل الظروف، وذلك من خلال
تنمية مجتمعه وتقديم الخير للفقراء والمساكين، والنجاح في الحياة العملية.
ولأن الأمر بالتوازن صعب على النفس البشرية، لا بد للناس عموماً وللدعاة خصوصاً أن
يتقووا بالصحبة الصالحة المعتدلة التي تعين على التوازن، لذلك نرى في الآية
المحورية قوله تعالى: [وَمَن تَابَ مَعَكَ].
قف بينهما
وللحسن البصري كلام رائع في هذه الآية، حيث يقول: (سبحان الذي جعل اعتدال هذا الدين
بين لاءين) وهي [لاَ تَطْغَوْاْ] و[لاَ
تَرْكَنُواْ]، وهي من اعتدال الإسلام وتوازنه في التعاطي مع مشاكل الحياة.
إن هذه السورة تعالج الوضع الذي نعيشه نحن اليوم تماماً، وهذا دليل على صلاحية
الإسلام لكل زمان ومكان. فكأنها تخاطبنا نحن لتقول: [لاَ
تَطْغَوْاْ]... [لاَ تَرْكَنُواْ]...
[فَٱسْتَقِمْ]... فرسالة السورة إلى المسلمين في كل
زمان ومكان هي: اصبروا، واستمروا في الإصلاح، بتوازن واعتدال، دون أي تهور أو ركون.
بداية السورة: كتاب أحكمت آياته
بدأت السورة بقوله تعالى: [الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَـٰتُهُ
ثُمَّ فُصّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ] (1).
ومن لطائف ترابط سور القرآن، أن السورة السابقة (سورة يونس) افتتحت أيضاً بالحكمة:
[الر تِلْكَ ءايَـٰتُ ٱلْكِتَـٰبِ ٱلْحَكِيمِ] (يونس:
1). فالسورتان بدأتا بالحكمة، لكن ما الفرق بينهما؟
سورة يونس ركّزت على حكمة الله في قضائه وقدره كما رأينا، أما سورة هود، فتحدثت عن
حكمة الله في كتابه وآياته لتركّز على حكمة المؤمن في التعامل مع الواقع الشديد، من
خلال الاستعانة بآيات الله الحكيم.
الإصرار على الدعوة بتوازن
والآية الثانية تظهر بوضوح معنى الإصرار على الدعوة بتوازن [أَلاَّ
تَعْبُدُواْ إِلاَّ ٱلله إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ]. ثم
تنتقل الآيات إلى إظهار تكذيب الأعداء للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يعيش قارئ
القرآن مع الجو المحيط لنزول السورة [أَلا إِنَّهُمْ
يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ...].
وفي خضم هذه الآيات، تأتي الآية السابعة بمعنى لطيف: [وَهُوَ
ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ...] فما
علاقة خلق السماوات والأرض بجو السورة؟ إن التدرج سنة كونية في ملك الله تعالى،
ولذلك خلق السماوات والأرض في ستة أيام مع أنه كان يقدر تعالى أن يفعل ذلك في لمح
البصر، وذلك لكي يعلمنا التدرج في الأمور والصبر وعدم الاستعجال.
والآية 11 تشير إلى نفس المعنى أيضاً: [إِلاَّ ٱلَّذِينَ
صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ...] مع أن أكثر آيات القرآن تأتي
بقوله تعالى: [ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ].
أرأيت كيف أن وراء كل كلمة بل كل حرف من القرآن حكمة وكيف تتكامل آيات السورة
الواحدة حول موضوع واحد. كيف لا والله تعالى يقول في أول السورة
[كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَـٰتُهُ...].
ومن شدة التكذيب، تأتي الآية (12) لتقول للنبي : [فَلَعَلَّكَ
تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ...]. فهل
تخلَّى الرسول عن بعض وحي الله، أو ضاق صدره عن تبليغ الدعوة؟ لا! وحاشا لله أن
يحدث هذا... ولكن هذه الآية تهدف إلى تثبيته صلى الله عليه وسلم ، وتثبيت المؤمنين
من بعده في كل زمان ومكان. فالمعاندون المكذِبون يجادلون الدعاة جدلاً بلا جدوى،
ولكن أيُّها المُحب لدين الله [إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ
وَٱلله عَلَىٰ كُلّ شَىْء وَكِيلٌ] (12) فأنت تعمل أجيراً عند الله، وعليك
أن تبلِّغ ما أُمرت به دون أن تنظر إلى النتائج، فالله وحده هو الذي بيده تحقيق
النتائج [وَٱلله عَلَىٰ كُلّ شَىْء وَكِيلٌ].
وتمضي أول 24 آية من هذه السورة لتكون رسالة واضحة للدعاة: التكذيب شديد، وله تأثير
عليكم، فاثبتوا على دعوتكم، وابذلوا جهدكم، ثم دعوا الأمر لله وتوكلوا عليه!!
نماذج للاستقامة
وبعد هذه الآيات تسير السورة كلها بنفس الطريقة: ذكر قصص مختلفة لأنبياء الله تعالى،
(نوح وهود وصالح وشعيب وموسى عليهم السلام)، والتركيز في كل قصة على تطبيق النبي
للأوامر الثلاثة (الاستمرار [فَٱسْتَقِمْ] - عدم
التهور [لاَ تَطْغَوْاْ] - عدم الركون
[لاَ تَرْكَنُواْ]).
نوح عليه السلام: 950 سنة
وأول قصة تأتي لتخدم معنى الاستقامة والثبات هي قصة نوح عليه السلام. وتجدر الإشارة
أن سورة هود تحتوي على أطول قصة لسيدنا نوح في القرآن (حتى أنها أطول من سورة نوح
نفسها)، فلماذا؟ لأن سيدنا نوح بقي 950 سنة في دعوة قومه دون أن يستجيبوا لـه،
فيكون بذلك مثالاً وقدوة في الاستقامة وعدم اليأس.
[وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ
نَذِيرٌ مُّبِينٌ & أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ ٱلله إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ] (25 - 26) فالكلمات التي وجّهها نوح إلى قومه هي
نفسها التي افتتحت بها السورة: [أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ
ٱلله إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ] (2) وكأنها تقول للدعاة:
الرسالة واحدة والدعوة واحدة، والظروف التي واجهت كل الأنبياء هي نفسها، فاستقيموا
واثبتوا كما ثبت نوح عليه السلام.
البعد عن التهور في قصة نوح
إذا وضعت بنفس الظروف التي ووجه بها سيدنا نوح، وقيل لك:
[فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا] (32)، ماذا ستفعل؟ هل
ستتهور؟ هل ستضربهم؟ ماذا سيكون جوابك؟ أنظر كيف كان خطاب نوح مع قومه بعيداً عن
التهور والعنف: [قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱلله إِن
شَاء وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ & وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ
أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ٱلله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ] (33 - 34).
إنها لهجة رقيقة لا تهوّر فيها ولا عنف، فليس بيني وبينكم مشكلة، لكن الله تعالى هو
الذي يأتيكم بالعذاب إن شاء.
لا ركون حتى للولد
لعلك الآن تسأل نفسك: أين عدم الركون في قصة نوح؟ وأين تطبيق قوله تعالى
[وَلاَ تَرْكَنُواْ]؟ والجواب على ذلك في قصة ابن نوح،
والتي لم ترد في القرآن كله إلا في هذه السورة، فلماذا؟
لأن نوحاً قال: [رَبّ إِنَّ ٱبُنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ
وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَـٰكِمِينَ] (45).
فماذا كان الجواب الرباني؟
[قَالَ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ
غَيْرُ صَـٰلِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِـى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّى أَعِظُكَ
أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ & قَالَ رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ
مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ
ٱلْخَـٰسِرِينَ] (46، 47).
إن السورة تحذِّر من الركون لغير الحق، ولذلك تذكر لنا تبرؤ نوح من ابنه الذي مات
على الكفر. فعاطفة الأبوة قد تدفع بالبعض إلى الركون لأبنائهم
[فَقَالَ رَبّ إِنَّ ٱبُنِى مِنْ أَهْلِى...] على
الرغم من الأخطاء التي يقع فيها الأبناء، فأتت السورة لتعلمنا أنه لا ركون للباطل،
ولو كان هذا الباطل معنا في عقر دارنا وبين أبنائنا الذين هم من صلبنا، وكان سيدنا
نوح مثالاً وقدوة في التبرؤ من الباطل وعدم الركون إليه.
التعقيب: فاصبر
وكما ذكرنا سابقاً، فإننا سنقرأ في آخر كل قصص الأنبياء تعليقاً على القصة وتعقيباً
عليها في آخر آية منها. وفي قصة نوح نقرأ قوله تعالى:
[تِلْكَ مِنْ أَنْبَاء ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا
كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا فَٱصْبِرْ إِنَّ
ٱلْعَـٰقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ] (49).
فالرسالة التي تحملها القصة هي قوله تعالى: [فَٱصْبِرْ...]،
صبراً إيجابياً فيه عمل وإنتاج دون تهور أو ركون.
أنبياء الله تعالى والتوازن
وكل قصص الأنبياء المذكورة في السورة (شعيب وصالح ولوط وهود) تخدم نفس المعنى،
وتشكّل تطبيقاً عملياً للآية المحورية في السورة (الآية 112)، بمحاورها الثلاثة:
1. [فَٱسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ...] (112).
2 [وَلاَ تَطْغَوْاْ] (112).
3 [وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ...]
(113).
فإذا أخذنا مثلاً قصة شعيب - مع العلم أنك تستطيع أن تطبق هذه القواعد على كل القصص
- فإننا سنرى فيها ما يلي:
الاستقامة على الثبات والإصلاح بتوازن [إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ
ٱلإِصْلَـٰحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ] (88).
وحدة المنهج الذي دعا إليها كل أنبياء الله (وحتى استعمال نفس الكلمات)،
[وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ]
(90).
شدة الوضع والتكذيب [قَالُواْ يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ
كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ
لَرَجَمْنَـٰكَ...] (91).
عدم التهور في الرد [قَالَ يٰقَوْمِ أَرَهْطِى أَعَزُّ
عَلَيْكُم مّنَ ٱلله] (92)، والملاحظ أنه استخدم نفس أسلوب سيدنا نوح في رد
الأمر إلى الله، فهو الذي سيحاسبهم [إِنَّ رَبّى بِمَا
تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] (92).
وبالمقابل، عدم الركون أو المداهنة يتجلى واضحاً في قوله [وَيٰقَوْمِ
ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنّى عَـٰمِلٌ] (93).
إلى أن جاءت الآية (94) بنصر للنبي والمؤمنين معه [وَلَمَّا
جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ
مّنَّا...].
فيا شباب، يا من تحبون الإسلام وترغبون بخدمته ونصرته، تعلموا من هذه السورة
الكريمة ومن قصصها العديدة كيفية التوازن في الدعوة عند اشتداد المحن والابتلاءات.
لماذا سميّت السورة بسورة هود؟
ويبقى سؤال أخير: لماذا سميّت السورة بسورة هود، مع أن قصة نوح أطول من قصة هود (عليهما
السلام) في هذه السورة.
الجواب: إن المحاور الثلاثة في السورة (الاستقامة وعدم الطغيان والتهور وعدم الركون)
قد ظهرت في قصة هود بشكل قوي وواضح أدى إلى تسمية سورة التوازن وعدم الركون باسمه.
فقد قال لقومه بعد أن اشتدّ التكذيب: [... قَالَ إِنِى
أُشْهِدُ ٱللهَ وَٱشْهَدُواْ أَنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ & مِن دُونِهِ
فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ] (54 - 55). أرأيت كلمة في
التحدي أقوى من هذه الكلمة؟
وإلى جانب ذلك تتجلّى استقامة سيدنا هود وثباته على الطريق المستقيم في قوله:
[إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱلله رَبّى وَرَبّكُمْ مَّا مِن
دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبّى عَلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ]
(56).
ثم [فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ
بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ
شَيْئًا إِنَّ رَبّى عَلَىٰ كُلّ شَىْء حَفِيظٌ] وهنا يظهر عدم التهور
والعنف.
فقد جمعت هذه الكلمات بقوة محاور السورة كلها: لا تهوّر أو لا طغيان، لا ركون
واستقامة، ووضعت المسؤولية على كل من سيأتي بعد سيدنا هود في الإصرار على الدعوة
ورفع الظلم وعدم الركون، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "شيبتني هود"، وذلك
لقوة الكلام فيها في الحثِّ على الاستقامة على طريق الله ومنهجه، ولقوة سيدنا هود
في كونه مثالاً على التوازن في الاستقامة دون تهور ولا ركون.
أمور تعين على الاستقامة
ويأتي ختام السورة، وفيه الآيتين المحوريتين اللتين ذكرناهما:
[فَٱسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ
تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ & وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى ٱلَّذِينَ
ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ ٱلله مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ
لاَ تُنصَرُونَ] (112-113).
فما الذي يعين على الاستقامة وعلى تنفيذ هذه الأوامر الثلاثة؟ كيف يبقى المرء ثابتاً
وصابراً ويأخذ بيد الناس من غير تهوّر ولا ركون؟
الجواب: [وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَىِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفاً
مِّنَ ٱلَّيْلِ إِنَّ ٱلْحَسَنَـٰتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيّئَـٰتِ ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ
لِلذكِرِينَ & وَٱصْبِرْ فَإِنَّ ٱلله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ]
(115).
يعينك أيها الشاب على [فَٱسْتَقِمْ]:
العبادة [وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ].
الصبر [وَٱصْبِرْ فَإِنَّ ٱلله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ
ٱلْمُحْسِنِينَ] (115).
العمل والإصلاح والدعوة إلى الله [وَمَا كَانَ رَبُّكَ
لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ] (117).
والملاحظة أن سورة يونس وسورة هود وسورة يوسف نزلت سوياً في فترة واحدة، وترتيبها
في المصحف هو نفس ترتيب نزولها. نزلت في محنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
والصحابة بمكة بعد وفاة خديجة وأبو طالب وكلها تعالج مشاكل متقاربة. وسبب اختيار
اسم نبي لعنوان كل سورة من السور الثلاث هو أن قصته فيها العبرة وهي تصب في محور
السورة وهدفها. وهذه السور الثلاث تكلمنا الآن لأننا في نفس المرحلة ونفس الشدة
والظلمة فلنستقم على طاعة الله، ولنحذر التهور واللجوء إلى العنف، ولنحذر كذلك
الركون إلى حضارات أخرى والارتماء بأحضانها ونستسلم ونعيش في ظلها وننسى انتماءنا
لإسلامنا ونفقد هويتنا، هذا هو محور سورة هود.