سورة غافر مكيّة وهي من أكثر سور القرآن الكريم التي فيها دعاء فقد ابتدأت بذكر
صفتين من صفات رحمة الله ومغفرته [غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ] آية 3 ثم
أعقبت بدعوة الملائكة للمؤمنين [الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ
تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ] آية 7 وفيها دعوة
الله تعالى عباده لدعائه وأعقب هذا الدعاء بالاستجابة [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ
جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ] آية 60 وفيها دعوة الله عباده بالدعاء له وهو يضمن لهم
الإجابة فهو غافر الذنب وقابل التوب سبحانه.
والسورة تتحدث عن نماذج أناس دعوا إلى الله تعالى والأهم أنهم فوّضوا أمرهم لله لأن
الداعي إلى الله قد يواجه بالأذى ممن يدعوهم ولهذا يحتاج إلى أن يفوض أمره إلى الله
بعد أن يبذل كل ما بوسعه في سبيل الدعوة لله. ومن هذه النماذج نموذج موسى في
دعوته لفرعون الطاغية الجبّار وقومه وقد جابه فرعون موسى حتى كاد أن يقتله فوّض
موسى أمره إلى الله [وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ
رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ
الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ
مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ] آية 26 و27 وفي هذا الموقف الصعب
يظهر من آل فرعون رجل يكتم إيمانه وهذه المرة الأولى التي يحدثنا القرآن عن قصة هذا
المؤمن من آل فرعون مع أن قصة موسى تكررت كثيراً في القرآن لكن وجود هذه الجزئية
من القصة هنا يخدم هدف السورة تماماً. وهذا الرجل المؤمن جادل فرعون وقومه بأساليب
متعددة:
باستخدام المنطق [وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ
إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم
بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ
صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ
مُسْرِفٌ كَذَّابٌ] آية 28
باستخدام العاطفة [يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ
فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ
إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ] آية 29، ومن اللافت
في هذه الدعوة أنه نسب الملك لهم أي لآل فرعون [لكم الملك] ولمّا تحدث عن العذاب
شمل نفسه معهم [فمن ينصرنا من بأس الله] اظهاراً للمودة وحب الخير لقومه
باستخدام الحبّ والخوف عليهم والحرص على نجاتهم
[وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ
وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا
لِّلْعِبَادِ] آية 30 و 31
باستخدام التاريخ [وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا
زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ
اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ
مُّرْتَابٌ] آية 34، التذكير بتاريخ من سبق وصنيعهم مع رسولهم للعبرة والإتعاظ.
ثم ذكّر بيوم القيامة وبلقاء الله تعالى لأنها من أهم الأسباب التي ترقق
القلب [وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ] آية 32 ، كلمة
[التناد] في وصف يوم القيامة ليظهر لنا صورة كيف ينادي الناس بعضهم البعض في هذا الحشر
العظيم وفي هذا الموقف الهائل وحرصه على نجاتهم في هذا الموقف.
[يَوْمَ تُوَلُّونَ
مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا
لَهُ مِنْ هَادٍ] آية 33. ثم عاد إلى العقل [وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ
إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ] آية 41، ثم عاد للتفويض مرة ثانية
بعد أن جادلهم بكل الوسائل الممكنة، فلمّا فوّض أمره إلى الله
[فَسَتَذْكُرُونَ مَا
أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ
بِالْعِبَادِ] آية 44 جاء الرد من الله تعالى [فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا
مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ] آية وكذلك مع موسى
[وَقَالَ
مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ
بِيَوْمِ الْحِسَابِ] آية 27
سبب تسمية السورة:
سميّت السورة بـ [غافر] لأن الله تعالى ذكر لنا هذا الوصف الجليل الذي هو من صفاته
الحسنى [غافر الذنب وقابل التوب] وكرر ذكر المغفرة في السورة وفي دعوة الرجل المؤمن
[وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفّار] وهذا كله لنعلم أن الله تعالى رحيم بالعباد
وعليهم أن لا يقنطوا من رحمته لأن رحمته سبقت غضبه ورحمته وسعت كل شيء.