سورة الروم (مكية)، نزلت بعد سورة الانشقاق، وهي في ترتيب المصحف بعد سورة
العنكبوت. عدد آياتها 60 آية.
آيات الله واضحة بينة
هذه السورة هي أكثر سور القرآن إيراداً لقوله تعالى [وَمِنْ
ءايَـٰتِهِ]، مما يدلنا على هدف السورة: "آيات الله واضحة وبينة، فكيف لا
تؤمنون؟".
لذلك تنتقل بنا الآيات في أرجاء ملك الله في الكون، وتذكر لنا آياته الواضحة
البينة، لتزيدنا إيماناً بعظمته وقدرته. اقرأ معي الآيات:
[وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ
تَنتَشِرُونَ & وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوٰجاً
لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً]
(20-21).
وكأن هذه الآيات تذكرنا بمعنى رائع، وهو أن لله تعالى في ملكه كتابان: كتاب الله
المنظور الذي هو الكون، وكتاب الله المقروء الذي هو القرآن. ومن روعة الكتابين
أنهما يدلان على بعضهما. فسورة الروم مثلاً، سورة مقروءة. لكنها تأخذ عينيك وتقول
لك: أنظر إلى كتاب الله المنظور لتستدل على الله. وكلما نظرت في الكون أكثر،
وجدته يحملك على أن ترجع لكتاب الله المقروء. فسبحان من جعل لكل نوع من الناس -
أميين ومتعلمين، عرباً وعجماً، كباراً وصغاراً - كتباً يقرأونها ويستدلون بها على
الله..
ومن آياته... ومن آياته
وتمضي الآيات في عرض متواصل لآيات الله الواضحة في الكون:
[وَمِنْ ءايَـٰتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ
وَٱخْتِلَـٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوٰنِكُمْ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لأَيَـٰتٍ
لّلْعَـٰلَمِينَ & وَمِنْ ءايَـٰتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ
وَٱبْتِغَاؤُكُمْ مّن فَضْلِهِ...] (22-23) - [وَمِنْ
ءايَـٰتِهِ يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزّلُ مِنَ ٱلسَّمَاء
مَاء فَيُحْىِ بِهِ ٱلأَرْضَ] (24) - [وَمِنْ
ءايَـٰتِهِ أَن تَقُومَ ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضُ بِأَمْرِهِ] (25).
هذه السورة 60 آية، من فضلك أنظر بنفسك، كم مرة وردت كلمة [آيات] في هذه السورة؟
لذلك بعد أن تقرأ السورة، أخرج إلى الطبيعة وتفكر في خلق الله لمدة 5 دقائق، من
الذي خلق هذا الكون وأبدعه؟ من الذي جعل فيه هذه الآيات العظيمة؟ من الذي أصلح
علاقات الأزواج مع أزواجهم، وجعل بينهم مودة ورحمة؟
وننتقل إلى الآية 46 لنرى آية أخرى من آيات الله [وَمِنْ
ءايَـٰتِهِ أَن يُرْسِلَ ٱلرّيَـٰحَ مُبَشّرٰتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ].
وتأتي آية أخرى [ٱلله ٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرّيَـٰحَ
فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِى ٱلسَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ
كِسَفاً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ] (48). وحتى في خلق
الناس: [ٱلله ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ
مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً]
(54).
وكأن هذه السورة تدلك على كتاب الله المنظور، وتقول لك: أنظر إلى آيات الله كيف
تحيط بك من كل جانب، فكيف لا يؤمن بها المكذبون الجاحدون؟ كيف يشك بعض الناس
بقدرة الله تعالى؟
الروم: آية تاريخية
لكن يبقى سؤال: لماذا سميت هذه السورة بسورة الروم؟ ستقول: لأن في أولها قوله
تعالى [غُلِبَتِ ٱلرُّومُ]. سأقول لك: حاضر... لكن
ما علاقة الروم بهدف السورة؟ ولماذا لم تسم هذه السورة بسورة الآيات؟
إن التسمية بهذا الاسم تحمل دلالة تاريخية، ففي عهد النبي،
قامت حرب بين الفرس والروم، فانتصر الفرس على الروم انتصاراً ساحقاً لم تقم الروم
من بعده.. فنزلت الآيات تخبر المؤمنين أن الروم سينتصرون على الفرس خلال بضع سنين
(أي من ثلاث إلى تسع سنوات).
فالسورة تتحدث عن آيات الله المبهرة في الكون، وكأنها تقول لكل من يكذب ويعاند:
إن لم تروا هذه الآيات وتؤمنوا بها، فانظروا إلى آية مادية، ترونها أمام عينيكم،
وهي انتصار الروم على الفرس في أقل من عشر سنين... وهذه الآية موجهة لنا في عصرنا
الحديث كما هي موجهة للأولين، فما الذي أدرى النبي الذي يسكن في مكة أن الروم
سينتصرون على عدوهم..؟ اسمع معي الآيات:
[الـم & غُلِبَتِ ٱلرُّومُ & فِى أَدْنَى ٱلأَرْضِ وَهُم
مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ & فِى بِضْعِ سِنِينَ لله ٱلأَمْرُ مِن
قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ & بِنَصْرِ ٱلله
يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ] (1-5).
آية كونية
وتحققت النبوءة القرآنية تماماً بعد تسع سنين. وسميت السورة بسورة الروم، حتى
تلفت نظر كل كافر إلى هذه الآية المادية لو لم يصدق بالآيات المنظورة في الكون.
لا بل أن هناك آية أخرى في هذه الحادثة، لم يفهمها الأوائل ولم ينتبهوا لها،
تزيدنا إيماناً بهذا الكتاب المبيّن وآياته المبهرة...
فالسورة تقول عن المعركة أنها حصلت في أدنى الأرض [غُلِبَتِ
ٱلرُّومُ & فِى أَدْنَى ٱلأَرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ]..
وهذه الآية لا يستطيع أحد من عصرنا إنكارها، فقد دل العلم الحديث أن المكان الذي
حدثت فيه المعركة، المعروف بحوض البحر الميت حالياً، هو أدنى منطقة على الكرة
الأرضية.. (وارجع إلى كتب الإعجاز العلمي في القرآن للمزيد من التفاصيل) فماذا
يملك كل مكذّب قديماً أو حديثاً بعد هذه الآيات..؟
آية اقتصادية
وتمضي السورة لتذكر لنا آية أخرى، آية مادية نراها في الدنيا... ليست آية علمية
بل آية اقتصادية... اسمع قوله تعالى: [وَمَا ءاتَيْتُمْ
مّن رِباً لّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ ٱلله وَمَا
ءاتَيْتُمْ مّن زَكَوٰةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ ٱلله فَأُوْلَـئِكَ هُمُ
ٱلْمُضْعِفُونَ] (39). والمعنى أن الربا لا يزيد المال بل ينقصه، ويأتي
علم الاقتصاد الحديث فيثبت أن أفضل وسيلة تجعل الاقتصاد مستقراً هي أن تكون نسبة
الفائدة صفراً بالمئة، أي بإلغاء الفوائد كلياً. ثم يثبت علم الاقتصاد أيضاً أن
الزكاة هي من أفضل أساليب التنموية..
فما الذي جاء بآية الربا ضمن سورة الآيات؟ سبحان الله، كأن السورة تقول للناس
كلهم، في كل العصور: أنظروا إلى آيات الله في كل المجالات: في التاريخ، والكون،
وعلم الجيولوجيا وعلم الاقتصاد... الزكاة أسلوب تنموي، والربا أسلوب لإقلال
الأموال وخسارة الاقتصاد
وقبل الختام، هناك عدة ملاحظات لا بد أن نشير إليها:
ظاهر الآيات وباطنها
أتى في أوائل السورة قوله تعالى: [يَعْلَمُونَ ظَاهِراً
مّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلأَخِرَةِ هُمْ غَـٰفِلُونَ]
(7).
فهذه الآية أتت في سورة مليئة بآيات الله تعالى، لتخبرنا أن هناك الكثير من
الآيات والدلائل قد لا نراها ولا نفهم الحكمة منها، لكنها في الواقع غير ما نراه.
فظاهر الروم هزيمة وانكسار، لكن الباطن والنتيجة كانا انتصاراً على عدوهم في مدة
قصيرة جداً. وظاهر الربا الزيادة، وظاهر الزكاة النقصان، لكن السورة تثبت غير ذلك،
أن الربا يؤدي إلى دمار اقتصادي، بعكس الزكاة التي تؤدي إلى التنمية.. وكأن
المعنى: ثقوا أيها المؤمنون بوعد الله، وثقوا بحكمته وتدبيره في الكون...