سورة الفرقان (مكية)، نزلت بعد سورة يس، وهي بعد سورة النور في ترتيب المصحف وعدد
آياتها سبع وسبعون آية.
هدف سورة الفرقان
إن سورة الفرقان تتحدث عن سوء عاقبة من يكذب بالله ورسوله وكتابه، ولذلك فإننا نرى
فيها ثلاثة محاور أساسية:
- أنواع التكذيب التي لقيها النبي صلى الله عليه وسلم
- التحذير من سوء عاقبة التكذيب
- تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وكل آيات السورة تدور حول هذه المحاور الثلاث بشكل واضح، ومن هنا سبب تسميتها
بالفرقان، لأنها توضح - من خلال هذه المحاور الثلاثة - كيف أن الدين والقرآن هما
الفرقان بين الحق والباطل.
تكذيب وتثبيت
نزلت هذه السورة الكريمة في وقت كان المشركون قد تمادوا في استهزائهم بالنبي صلى
الله عليه وسلم . فجاءت آياتها تثبت النبي وأصحابه، وتكذب من يكذبونه..
لذلك نرى في أول السورة قوله تعالى [وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ
إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءاخَرُونَ فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً
وَزُوراً & وَقَالُواْ أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَىٰ
عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً] (4 - 5).
أنواع مختلفة من التكذيب، من تكذيب القرآن ووصفه بأنه [أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ] إلى تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم :
[وَقَالُواْ مَا لِهَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى
ٱلأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً & أَوْ
يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ
ٱلظَّـٰلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً & ٱنظُرْ كَيْفَ
ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَـٰلَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً]
(7 - 9).
وبعد هذه الأنواع المختلفة من التكذيب، يأتي تثبيت رائع للنبي صلى الله عليه وسلم
[تَبَارَكَ
ٱلَّذِى إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذٰلِكَ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا
ٱلأَنْهَـٰرُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً] (10).
ثم الآيات التي بعدها تبيّن عاقبة المكذّبين: [بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِ
وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيراً & إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ
بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً & وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا
مَكَاناً ضَيّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً & لاَّ تَدْعُواْ
ٱلْيَوْمَ ثُبُوراً وٰحِداً وَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً]
(11 - 14).
خذلهم شياطين الإنس والجن
وبعد ذلك تبين الآيات نوعاً أقبح من التكذيب [وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ
لِقَاءنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلَـئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ
ٱسْتَكْبَرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً] (21).
فماذا ستكون عاقبتهم؟ [وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّـٰلِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ
يٰلَيْتَنِى ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً & يٰوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ
أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً & لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ ٱلذّكْرِ بَعْدَ إِذْ
جَاءنِى وَكَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لِلإِنْسَـٰنِ خَذُولاً] (27 - 29).
نعم، لقد خذلهم أصدقاء السوء، وتخلى عنهم الشيطان الذي كان يحركهم...
وتماماً كالمثال السابق، يأتي بين الآيات التي تبين نوع التكذيب والآيات التي تبين
عاقبته نوع من الطمأنة [أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً
وَأَحْسَنُ مَقِيلاً] (24).
احذر هجر القرآن
ثم تأتي بعد ذلك شكوى خطيرة من كل من يهجر القرآن: [وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يٰرَبّ إِنَّ
قَوْمِى ٱتَّخَذُواْ هَـٰذَا ٱلْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً] (30).
فحذار حذار من هجر القرآن، لأنه طريقك إلى الفرقان بين الحق والباطل، بين الظلمات
والنور، وبين الإيمان والتكذيب.
وتكذيب المشركين ليس له حدود، فهم يبحثون عن أي سبب ممكن للتكذيب، فها هم الآن
يطعنون في تنزيل القرآن على دفعات: [وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ
عَلَيْهِ ٱلْقُرْءانُ جُمْلَةً وٰحِدَةً] (32)، فيرد عليهم المولى بأروع طريقة:
[كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً]... فجمعت هذه
الآية بين الرد على دعوى الكفار وتكذيبها، وبين تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم
، وكل ذلك في آية واحدة...
وتستمر الآيات بنفس الطريقة التي سبق بيانها: ذكر نوع من أنواع التكذيب، ثم ذكر
عاقبته وبين ذلك طمأنة للنبي صلى الله عليه وسلم :
فمن أنواع التكذيب: [وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَـٰذَا
ٱلَّذِى بَعَثَ ٱلله رَسُولاً] (41).
لذلك تثبت الآيات النبي صلى الله عليه وسلم وتعده بالمساعدة وإقامة الحجة:
[وَلاَ
يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَـٰكَ بِٱلْحَقّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً] (33).
ثم تحذر من مصير الكافرين: [ٱلَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ إِلَىٰ
جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً] (34).
السبب الرئيسي للتكذيب
وقد يتساءل البعض: لماذا كل هذا التكذيب وهذا الافتراء؟ فتأتي الآية 42 - وهي آية
محورية - لتجيب بأن سبب التكذيب هو اتباع الهوى، فإن من يتبع هواه لا يقر بخطئه،
لكنه يرمي الآخر بالخطأ [أَرَءيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ
تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً] (42).
فماذا تملك لمثل هذا النوع من الناس، الذي عبد هواه من دون الله، فألغى عقله وأفسد
فطرته؟ فعلاً "أفأنت تكون عليه وكيلاً"؟؟
ألم تر إلى ربك كيف مد الظل
وتستمر السورة على نفس السياق، (بيان أنواع تكذيب المشركين، ثم ذكر عاقبته، ثم
طمأنة النبي عليه الصلاة والسلام وتثبيته)، إلى أن تصل السورة إلى ذكر الآيات
الكونية لله تعالى في الكون.
ومن روعة القرآن أن السورة إذا احتوت على ذكر لآيات كونية، تتحدث عن قدرة الله
تعالى في الكون، فإنها لا تكون آيات متناثرة، لكنها تناسب الجو العام للسورة، تماماً
كما قلنا عن قصص الأنبياء التي تأتي في السورة لتخدم هدفها.
فماذا نرى في سورة الفرقان؟ إن الجو العام للسورة هو تكذيب النبي صلى الله عليه
وسلم، والسورة تهدف إلى تثبيت النبي وطمأنة قلبه، فتأتي آية كونية رائعة لتخدم هذا
المعنى: [أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ
سَاكِناً] (45)، وهي إشارة على أن من مد الظل رحمة بعباده هو قادر على أن يظلهم
برحمته، ويروِّح عنهم تكذيب المكذِّبين. ففي امتداد الظل سكون واستقرار للقلوب،
لركونها إلى الخالق الذي أبدع كل هذه الآيات.
ليل الرحمة
وبعد ذلك يقول تعالى [وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ لِبَاساً وَٱلنَّوْمَ
سُبَاتاً وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَ نُشُوراً] (47).
واختيار الليل هنا يلقي بظلال من السكون والرحمة، ثم يقول تعالى:
[وَهُوَ ٱلَّذِى أَرْسَلَ ٱلرّيَـٰحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ
وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء طَهُوراً & لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً..]
(48 - 49).
فنرى أن الآيات الكونية من رياح وأمطار تبشّر المؤمنين برحمة الله وتطهّرهم وتحيي
قلوبهم، وكلها لتخفّف عنهم شدة الاستهزاء والتكذيب الذي يعانون منه.
قمة التكذيب
وبعد تكذيب الكفار بالنبي وبالقرآن، تصل بنا الآيات قبل الختام إلى نوع شديد من
أنواع تكذيبهم: إنهم يكّذبون بالرحمن
[وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ
أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً] (60).
وهي قمة في سوء الأدب مع الله تعالى، فترد عليهم الآيات بطريقة رائعة: لا بإخبارهم
من هو الرحمن، بل بوصف عباده: [وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ]. حتى يعرفوا الرحمن من
صفاتهم، وهذا من تشريف الله تعالى وتثبيته لهم، وكأنه يقول لهؤلاء الكفار المعاندين:
اسألوا هؤلاء عن الرحمن...
عملهم من وصفه
والرد على المشركين بهذه الطريقة هو أعظم تشريف لعباد الرحمن، لأنهم يدلون على
الرحمن من خلال صفاتهم.
[وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا
خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً & وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ
سُجَّداً وَقِيَـٰماً & وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ
جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً & إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً
وَمُقَاماً & وَٱلَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ
وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً & وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱلله إِلَـٰهَا
ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱلله إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَلاَ
يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً & يُضَـٰعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ
يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً & إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ
وَعَمِلَ عَمَلاً صَـٰلِحاً فَأُوْلَـئِكَ يُبَدّلُ ٱلله سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـٰتٍ
وَكَانَ ٱلله غَفُوراً رَّحِيماً & وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَـٰلِحاً فَإِنَّهُ
يَتُوبُ إِلَى ٱلله مَتاباً & وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا
مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً & وَالَّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِـئَايَـٰتِ
رَبّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً & وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ
رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوٰجِنَا وَذُرّيَّـٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ
وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً] (63 - 74)، وآية
[وَٱجْعَلْنَا
لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً] تفيد أن تمني المسلم للقيادة أمر مطلوب ومحمود - من غير
حب للرئاسة أو طمع بالدنيا - في سبيل أن يكون إماماً للمتقين وقائداً ومعيناً لهم
على تقوى الله.
ومن روعة الآيات السابقة أنها وازنت بين تفوّق عباد الرحمن في العبادة، وبين حسن
أخلاقهم. فترى فيها تسلسلاً واضحاً: صفة عبادة ثم صفة خلق، وهكذا إلى آخر السورة،
لتوحي أن المؤمنين الذين يستحقون صفة عباد الرحمن هم الذين لا يفصلون بين العبادة
والأخلاق.
أما أنتم يا من كذبتم بالرحمن، فاسمعوا قول الله تعالى في ختام
السورة: [قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ
فَسَوْفَ
يَكُونُ لِزَاماً] (77).
وهكذا نجد آيات سورة الفرقان دائماً: فرقاناً بين الحق وأهله وبين الباطل وحزبه.
وفرقاناً بين نعيم المؤمنين وتثبيت الله تعالى لهم وبين جحيم المكذبين وتهديدهم
بنزول العذاب الأليم.