سورة الأنفال (مدنيّة)، نزلت بعد سورة البقرة، وهي في ترتيب المصحف بعد سورة
الأعراف، وعدد آياتها خمس وسبعون آية.
يوم الفرقان
وقد أنزلت هذه السورة بعد غزوة بدر للتعقيب عليها (لذلك سماها بعض العلماء سورة بدر).
وغزوة بدر هي أول معركة في الإسلام، وسماها الله تعالى في هذه السورة بيوم الفرقان،
لأنه اليوم الذي فرّق الله به بين الحق والباطل، يوم يمثل فرقاً بين عهدين في تاريخ
البشرية: عهد كان الإسلام فيه مستضعفاً وعهد سيكون فيه الإسلام قوياً وله أمة قوية
تدافع عنه إلى يومنا هذا. لقد كان يوماً عظيماً في تاريخ البشرية، لذلك نزلت السورة
كلها للتعقيب على ذلك اليوم.
ولو كان النصر يقاس بالمقاييس المادية، فإن المسلمين لم يكونوا لينتصروا في ذلك
اليوم، لأن عدد المسلمين كان ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ولم يكونوا مهيئين نفسياً
أو مجهزين عتاداً للقتال، في حين كان عدد الكفار ما يقرب من ألف مقاتل كامل
الجهوزية للحرب.
والجدير بالذكر أنه كان مع المسلمين في هذه المعركة فرسٌ واحد، في حين كان مع
المشركين ثلاثمائة فرس. فبالمقاييس المادية كان من المستحيل أن ينتصر المسلمين في
هذه المعركة.
سيئات الأبرار
الأنفال معناها الغنائم، وقد سميت السورة باسم هذه الغنائم - الأنفال -.
وللصحابة تعليق لطيف على سورة الأنفال، فإنهم يقولون: فينا نحن معشر أصحاب رسول
الله نزلت سورة الأنفال، حين اختلفنا على النفل وساءت فيه أخلاقنا. وليس سوء الخلق
الذي يتحدثون عنه هو الذي نعرفه اليوم، ولكن عبروا عن اختلافهم بذلك لعظيم أدبهم
وتواضعهم.
قوانين النصر مادية وربانية
إن السورة تتحدث عن القوانين التي يعتمد عليها النصر، وهذا مناسب لجو السورة وسبب
نزولها. فبعد أن انتصر المسلمون في بدر نزلت السورة لترسخ للمسلمين الأسباب الكونية
للنصر، فهو لا يأتي من قبيل الصدفة ولا العبث، وإنما للنصر قوانين مادية وقوانين
ربانية.
وهذا يعني أن للنصر سببين هامين:
1. اليقين بأن النصر من عند الله عز وجل [وَمَا ٱلنَّصْرُ
إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱلله] (101).
2. الأخذ بالأسباب والسعي الجدي لتقريب موازين القوى مع الأعداء، بل والتفوق عليها
إن كان ذلك ممكناً، ووضع الخطط والدراسات وكل ما له تأثير مادي على النصر.
فهذه السورة تحقق مفهوم التوكل على الله، بأن نوقن بأن الله هو الناصر، وأن نبذل كل
جهد ممكن لتحقيق هذا النصر من طاقة مادية. ولذلك فإن السورة قد تضمنت قول الله
تعالى: [ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱلله لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً
أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ] (53).
فالآية تشير إلى أن الفعل في التأثير ليس إلا لله الواحد، ولكن بشرط أن تأخذ
بالأسباب ما أمكن. فيجب أن ندرك أن النصر بين أمرين: جهد البشر وعمل القدر - تدبير
الله تعالى -.
بعض الناس يظنون أن النصر معجزة ربانية فقط، فتراهم يدعون الله لينصرهم وبعد ذلك
يتساءلون عن سبب تأخير النصر. فهم حقيقة لم يفهموا أن هناك أسباباً مادية ينبغي
الأخذ بها من تخطيط وجهد وبذل. فلا يكفي الدعاء واللجوء إلى الله مع ترك الأخذ
بالأسباب، لأننا بذلك نكون مقصرين في فهمنا لطبيعة ديننا ولسنن الله في هذه الأرض.
وبالمقابل، هناك نوع آخر من الناس يأخذون بالأسباب كلها من وضع الخطط والدراسات
وجهد بالليل والنهار وبعد ذلك حين يريدون المقابلة والمقارنة مع قوة الكفار يجدون
أنفسهم ضعفاء للغاية، فيظنون أنهم عاجزون عن فعل أي شيء والسبب في ذلك أنهم اعتمدوا
على الأسباب المادية فقط ونسوا أن النصر من عند الله.
فالسورة ترشدنا إلى التوازن بين هذين النقيضين: أن نؤمن بتدبير الله أولاً، وأن
نبحث عن الشروط المادية لتحقيق النصر.
النصر من عند الله
تبدأ السورة بسؤال: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلانفَالِ]
(1)، أي يسألون عن كيفية تقسيم الغنائم.
[يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلانفَالِ قُلِ ٱلانفَالُ لله
وَٱلرَّسُولِ فَٱتَّقُواْ ٱلله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ٱلله
وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (1).
وتنتقل الآيات بعد ذلك إلى سرد صفات المؤمنين: [إِنَّمَا
ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱلله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...] (2).
واللطيف أن الجواب على سؤالهم عن تقسيم الغنائم لم يأت بعد السؤال مباشرةً، إنما
جاء الجواب في الآية الواحدة والأربعين أي بعد أربعين آية من السؤال:
[وَٱعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ لله
خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ...].
وسبب تأخير الإجابة أنهم حين سألوا السؤال كانوا يريدون المكافأة الدنيوية على
النصر، والله علمهم أن النصر أولاً وآخراً هو بتقديره ومن عنده سبحانه وتعالى.
فكان الجواب المبدئي على سؤالهم: [قُلِ ٱلانفَالُ لله
وَٱلرَّسُولِ] (1)، وليس لكم منها شيء، وذلك من لطف القرآن في التربية في
صرف أنظارهم عن الأنفال لترسيخ قوانين النصر أولاً، ثم بعد ذلك تمّ شرح كيفية توزيع
الغنائم إلى أن قال لهم في آخر السورة [فَكُلُواْ مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلَـٰلاً طَيّباً] (69). فالله تعالى رسّخ ما هو أهم وبيّن أن
مسألة تقسيم الأنفال هي مسألة فرعية لأنها من المسائل الدنيوية.
لماذا سميت السورة بالأنفال
إن الأنفال وهي الغنائم هي إشارة للدنيا، والواقع أن المسلمين بعد غزوة بدر اختلفوا
ودبت بينهم الشحناء وكادت الأخوة أن تضيع بسبب الدنيا. فالله تعالى من خلال هذه
السورة يحذِّر المؤمنين من التنافس على الدنيا فتكون بذلك سبباً للفرقة وضياع
الأخوة بين المؤمنين، مما يضيع اكتمال الأسباب المادية والربانية ويسبِّب الهزيمة.
لذلك الآيات أمرتهم بإهمال الأنفال تماماً [قُلِ ٱلانفَالُ
لله وَٱلرَّسُولِ] حتى ترسخ أسباب النصر عندهم. فلما رسخ المعنى قسمها في
الآية (41) إلى أن نصل إلى الآية (69) لتوضح أن مسألة الأنفال فرعية وتحل لهم ما
أخذوا: [فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَـٰلاً طَيّباً...].
وأسباب النصر كما ذكرنا هي لجوء إلى الله واخذٌ بالأسباب، ومن الأخذ بالأسباب
الأخوة الشديدة ووحدة الصف، فلو ضاعت الأخوة وحلّت الفرقة فإن الهزيمة قادمة لا
محالة. فسميت السورة بالأنفال حتى تذكرنا بما يسبب الهزيمة.
ختام معالم المنهج
بعد أن انتهت أول 10 سور من القرآن، نرى أن معالم المنهج اللازمة للاستخلاف على
الأرض قد صارت واضحة، وأن أهداف السور ورسائلها تتكامل أمام ناظري قارئ القرآن:
- أنتم مسؤولون عن هذه الأرض أيها المسلمون، وهذا هو منهجكم (سورة البقرة).
- أهمية الثبات على هذا المنهج (سورة آل عمران).
- العدل شرط أساسي لضمان الاستخلاف (سورة النساء).
- أهمية الوفاء بالمنهج والعقود التي قطعتموها لتطبيقه (سورة المائدة).
- توحيد الله تعالى في الاعتقاد والتطبيق أمران لازمان في هذا المنهج.
- احسم موقفك أيها المسلم تجاه هذا المنهج.
- قوانين ربنا في النصر مادية وربانية، وهذا من شمول المنهج وواقعيته.
أرأيت كيف تتكامل هذه السور في رسائلها لتكون سلسلة واحدة متماسكة في موضوعاتها؟
لذلك بعد أن وضحت معالم المنهج، تأتي الأجزاء العشرة التالية لتقدّم لنا عوامل
مساعدة على تحقيق المنهج، ومنها:
- التوبة.
- استشعار نعم الله تعالى (سورة النحل)، والتي من أهمها نعمة الإيمان (سورة إبراهيم).
- الاعتدال والوسطية في الدعوة إلى المنهج (سورة هود).
- الصبر والأمل بنصر الله (سورة يوسف).
بعد أن فهمنا أين نحن من تدبّر آيات ربنا، تعالوا إلى الأجزاء العشرة التالية من
القرآن، وإلى المزيد من روائع القرآن وإعجازه.