سورة آل عمران (مدنية) نزلت بعد الأنفال وعدد آياتها 200 آية وهي بعد سورة
البقرة في ترتيب المصحف.
علاقتها مع سورة البقرة
سورة آل عمران هي شقيقة سورة البقرة بنص أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتسميان (بالزهراوين).
وهناك تشابه كبير بينهما، فكلتهما بدأتا بـ [ألم]، واختتمتا بدعاء، ومن لطائف
القرآن أن أول 3 سور من القرآن قد اختتمت بدعاء:
الفاتحة [ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ...] (4).
البقرة [رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا] (255).
وآل عمران [...رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَـٰتِنَا
وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلاْبْرَارِ] (193).
وهذه إشارة إلى أهمية الدعاء عند المسلم ليلجأ إليه دائماً.
الثبات على المبدأ
إن الهدف الذي تدور حوله السورة وثيق الصلة بهدف سورة البقرة التي كانت تخبر
المسلمين بأنهم مسؤولون عن الأرض، والتي عرضت منهج الاستخلاف. فسورة آل عمران تؤكد
الثبات على هذا المنهج، والكثير من الأشخاص - بعد أن يقرأوا المنهج ويتحملوا
المسؤولية - يزيغون ويسقطون، ويبتعدون عن المنهج القويم، كالذي يتعبد في شهر رمضان
ثم يغلق أبواب الطاعة والعبادة بعده. فالسورة تخاطب المتدينين منذ أكثر من 20 سنة
وتثبتهم على الدين، كما تخاطب الشباب الذين تديّنوا بالأمس وتقول لهم أثبتوا على
دينكم ومنهجكم لتحقيق استخلاف المسلم في الأرض.
كيف نثبت على الحق؟
للإجابة على هذا السؤال يجب أن نعرف كيف يزيغ الناس، فالناس يضللون إما بالأفكار
التي تشوش عقائدهم، أو يتيهون وسط مشاغل الحياة فتضعف عزائمهم. وبالتالي فأسباب
الهلاك فكرية (داخلية) أو عملية (خارجية)، والسورة تحث المؤمن على الثبات في
المجالين وتحذره مما قد يكون سبباً في زلته.
لذلك تقسم السورة إلى قسمين:
1. القسم الأول: الآيات (1 - 120)
الثبات على الحق فكرياً أمام المؤثرات الخارجية، من خلال الحديث عن أهل الكتاب
والحوار معهم، وهو أول حوار بين العقائد في القرآن.
2. القسم الثاني: الآيات (120 - 200)
تتحدث عن الثبات على الحق عملياً أمام المؤثرات الداخلية من خلال الحديث عن غزوة
أحد، كنموذج للأخطاء التي قد تقع وكيفية تفاديها.
من البداية للنهاية
بدأت السورة بما يساعد المسلم على الثبات، وختمت أيضاً بما يثبته على الحق.
اقرأ في بداية السورة: [الم & ٱلله لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ &
نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيه]
(1-3).
فإلهك إله واحد وهو المعين على الثبات، والكتاب حقّ، وهو طريقك إلى الثبات على هذا
الدين.
والآية الأخيرة تقول للمؤمنين [يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱصْبِرُواْ
وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱلله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (200).
اصبروا أي اصبر نفسك، أما صابروا فمعناها أن تساعد غيرك على الصبر، وأما رابطوا
فمعناها أن يبقى المسلم مستعداً لمواجهة أي خطر يأتي من الخارج. والرباط يكون على
الثغور لدفع وصد العدو الخارجي سواء كان هذا العدو جيشاً أو فكرة وشبهة.
وذكر القرآن كعامل من عوامل الثبات قد تكرر كثيراً في السورة.
فتأتي الآية (7) لتوضح [هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ مِنْهُ آيَـٰتٌ
مُّحْكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتٌ فَأَمَّا
الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاء
ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱلله
وَٱلرسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا
وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلالْبَـٰبِ].
الفهم الصحيح للقرآن من أهم عوامل الثبات الفكري والكثير من الناس قد يزيغون ويقعون
في الباطل عن طريق اتباع المتشابه من القرآن. فالسورة تحذرنا من هذا الضلال وتحثنا
على أن نكون من الراسخين في العلم، وان ندعو بدعاء الثبات: [رَبَّنَا لاَ تُزِغْ
قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ
أَنتَ ٱلْوَهَّابُ] (8).
عقبات الثبات: (الشهوات والمعاصي)
في أوائل السورة نقرأ الآية [زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوٰتِ مِنَ ٱلنّسَاء
وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَـٰطِيرِ ٱلْمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ
وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلانْعَـٰمِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ
ٱلدُّنْيَا وَٱلله عِندَهُ حُسْنُ ٱلْمَأَبِ] (14).
فالتعلق بمتاع الدنيا الزائل وشهوتها الفانية عامل خطير ضد ثبات الأمة.
ويقول تعالى: [إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ
إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ] (155).
فهذه الآية تقول بأن الذين تولوا من الصحابة يوم غزوة أحد كان عندهم ذنوب في الماضي،
فاستزلّهم بها الشيطان فلم يثبتوا.
ونرى آية أخرى في نفس المعنى:
[أَوَ لَمَّا أَصَـٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ
أَنَّىٰ هَـٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ] (165).
الحل: (التوبة)
لذلك تتكرّر الآيات التي تدعو إلى التوبة والمسارعة فيها.
فيقول تعالى: [ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ] (16).
[إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ ٱلله غَفُورٌ
رَّحِيمٌ] (89).
وتأتي الآية [وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا
ٱلسَّمَـٰوٰتُ وَٱلاْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] (133).
فلتكن هذه الآية شعاراً للشباب الذين يقعون في المعاصي، المسارعة بالاستغفار
والتوبة لنثبت على الحق ونضمن جنة عرضها السماوات والأرض.
خمسة عوامل: أتت بها السورة وركّزت عليها:
1. اللجوء إلى الله: فالثبات من الله تعالى وهو القادر على تثبيتنا على منهجه.
لذلك فالسورة تحثّ على الدعاء كثيراً من أولها:
[رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ
رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ] (8).
[رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ ٱلله لاَ
يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ] (9).
إلى أن يصوِّر لنا القرآن نماذج مضيئة وكيف كانت تلجأ إلى الله.
فهذه زوجة عمران تدعو الله قائلة: [رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي
مُحَرَّرًا] (35).
وزكريا [هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ
ذُرّيَّةً طَيّبَةً] (38).
2. العبادة: وتقرأ في ذلك قوله تعالى: [كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا] (37) فكانت السيدة مريم عاكفة على المحراب، فتعلم منها سيدنا زكريا لذلك عندما نادته
الملائكة لتبشره بيحيى: [فَنَادَتْهُ ٱلْمَلَـئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى
ٱلْمِحْرَابِ] (39).
3. الدعوة إلى الله: فالدعوة إلى الله من أهم عوامل الثبات لأن الداعي حين يأخذ بيد
الناس فإنه سيكون أول من يثبت على ما يدعو الناس إليه. لذا فإن السورة تحتوي على
الكثير من الآيات التي تحثّ المؤمن على الدعوة إلى الله:
[وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ]
(104).
4. وضوح الهدف: ومن عوامل الثبات أن يكون لك هدف واضح في حياتك.
يقول تعالى: [ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱلله قِيَـٰماً... رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا
بَـٰطِلاً سُبْحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ](191).
فلا بدّ أن نفهم أن هذا الكون قد أنشئ لهدف ولم ينشأ عبثاً، والهدف هو عبادة الله
ومعرفته وأن نكون مسؤولين عن الأرض (كما وضحت سورة البقرة).
5. الأخوة: [وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱلله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ]
(103).
فالأخوة في الله تؤمن للمسلم الصحبة الصالحة وهي من أهم نعم الله على الإنسان
[فَأَصْبَحْتُم
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً] (103).
لذلك تحذّرنا السورة من تضييع الأخوة والتفرق [وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ
تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْبَيّنَـٰتُ] (105).
لماذا سميت السورة بآل عمران؟
ما علاقة كل ما قيل عن الثبات بآل عمران؟ إن الله تعالى قد اختار في هذه السورة
رمزين من رموز الثبات، امرأة آل عمران، ومريم بنت عمران، وسرد
لنا قصتهما في ربعين كاملين من السورة. فالسيدة مريم ثبتت على طاعة الله تعالى
وعبادته وثبتت على العفة حتى استحقت أن تذكر بهذه الصفة في القرآن
[ٱلَّتِى
أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا] فمن أخطر الأمور التي تضيّع الأفراد وتضيّع المجتمعات الفشل
في الثبات على الطاعة وعلى العفة. فكانت السيدة مريم عليها السلام رمزاً للثبات
عليهما.
وأما زوجة عمران فقد كان همها الأول أن يكون الجنين الذي
تحمله ناصراً لدين الله تعالى: [رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي
مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنّي] (53).
محرّراً أي خالصاً لك فكانت تريده أن يحرر المسجد الأقصى من يد الرومان المعتدين
وبذلك كانت رمزاً للثبات على فكرتها حتى بعد أن علمت أن
وليدها كان أنثى. [فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ
وَٱلله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ وَإِنّى
سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ...] (36) فتقبّل
الله تعالى من امرأة عمران صدق نيتها [فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ
وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا...] (37).واللطيف أن الله تعالى ذكر هذين الرمزين في
السورة التي تناقش أهل الكتاب وهذه طريقة مميّزة للقرآن في تقريب الناس كما مرّ
معنا. فمع أنه ينكر على ما يعتقده أهل الكتاب لكنه يثني على شخصيات عظيمة يؤمنون
بها كزوجة عمران والسيدة مريم.