مشاركة من سمير الترتير - أسئلة مفتوحة لكل أم فلسطينية!

 


نجلاء محفوظ

تتسابق الأسئلة على عقلي وتتقافز لتخرج من قلبي، وأجاهد نفسي لتنظيمها.. كنت سأبدأ بأم الشهيد أحمد ياسين ثم تراجعت، وسأتوجه لأم طفل في السادسة من العمر.. سألته ناشطة ذهبت لغزة المحاصرة عن حياته فأجاب بحرمانه من كل ما يحبه، فبادرته: هل ترغب في ترك غزة، فرد بحزم قاطع: كلا بالطبع.
فهتفت: لماذا؟
ابتسم وقال باعتزاز لا تخطئه العين (ويخترق) القلب، وبتلقائية تعلن فيها (عطور) الصدق عن نفسها: لأن غزة غالية علي..

كيف زرعت أمه الإحساس بالعزة وبأن الوطن غال مهما تكبدنا الخسائر (الفادحة) ونحن نعيش فيه.

هذا الطفل الصغير المحروم من كل احتياجاته (المشروعة) من مأكل وملبس وتعليم، ولن أتمادى وأقول اللعب والانطلاق بدون خوف في المنتزهات.

كيف أقنعته أمه بأن الوطن (أغلى) من كل ما يحب، وأن البقاء فيه ومكابدة كل المعاناة (أفضل) من تركه والاستمتاع بمباهج الحياة التي يهنأ بها كل أطفال الدنيا إلا هو وأقرانه.

في الوقت الذي تعاني معظم الأمهات في إقناع أطفالها بتأجيل تغيير الهاتف المحمول، أو تنظيم قضاء الأوقات أمام ألعاب الكمبيوتر، أو الاكتفاء بنقود أقل عند ذهابه إلى مدينة للملاهي أو...

كيف لم تمنع الأمهات الفلسطينيات في كل من الضفة الغربية وعرب 48 أولادهن من تحدي الاحتلال، والخروج بصورهم العارية لإلقاء الحجارة على الجنود المدججين بالأسلحة لإعلان تضامنهم مع إخوانهم الذين يتم ذبحهم في غزة.

كيف لم تخدع هؤلاء الأمهات أنفسهن، كما تفعل معظم الأمهات وتقول: لنكتفي بالدعاء لهم، ولنحمي أولادنا من (التهلكة)، ويكفي التعاطف بقلوبنا معهم.

كيف تبقين شعلة الحماس داخل الأبناء والأزواج والأولاد؛ لتستمر الروح الأبية جيلا وراء جيل، وتتصاعد في إباء لم تعرفه البشرية.

المخزون الرهيب
ولنتوقف عند أم خالد مشعل الذي قام الإسرائيليون بتسميمه في بلد عربي، وشاءت إرادة الرحمن أن يعود للحياة عندما أجبر حاكم هذا البلد إسرائيل لمنحه الترياق فتعافى.
كيف لم تسارع باحتضان ولدها بعد عودته للحياة وتأمره: كفى ما قدمت لدينك ولوطنك وليستكمل غيرك ما بدأت.

وأتساءل عن المخزون الرهيب الذي زرعته داخل ولدها، والذي دفعه للمواصلة بثبات يتنامى، وصرح أنه عندما يحزن يلجأ للأذكار الدينية ليهدأ، ويخصص وقتا يوميا لقراءة القرآن الكريم، ويتدارسه أحيانا مع زوجته وأبنائه، بل ومع معاونيه حتى يزيد من ثباتهم جميعا.

ولم ينس ذكر أهمية الرياضة البدينة، وكيف يتضاعف أثرها (وجمالها) عندما ترتبط بأداء الأدعية في الوقت نفسه؛ ليهنأ بالصحة والروحانية في وقت واحد.

كيف تمكنت والدته من تقديم هذه الشخصية المتوازنة المتواضعة والتي تعرف حدودها، فقد أشار إلى رجوعه للمسئولين الشرعيين للتأكد من أي تصرف سياسي أو عسكري أو دبلوماسي قبل القيام به.

كيف لم يتسلل إليه الغرور والتسلط، وهو ما ينتشر عند الكثير من أولادنا بعد توليهم وظائف مرموقة؛ أو لأنهم يركبون سيارات فارهة، أو لديهم أرصدة مالية كبيرة في البنوك.

كيف أوصلته إلى هذه (القناعة) الرائعة بأنه على كل إنسان أن يعيش عزيزا كريما، وأن يفعل كل ما بوسعه؛ ليحقق أهدافه في الحياة عن طريق النية الصادقة أولا، ثم تنمية الإرادة لديه وأخيرًا الاهتمام المتواصل بها.

وأقارن بين هذه الأم الرائعة وكثير من الأمهات اللاتي يشجعن أولادهن على اقتناص أي فرص للفوز بالأموال، ولو كان ذلك على حساب الكرامة والعزة، ويبررن ذلك بأن الحياة في هذه الأيام لا تحتمل (المثاليات)، وأن علينا أن نتسم بالواقعية، وأن لكل عصر ما يناسبه.

وأتذكر ما قالته يوما أرملة الشهيد عبد العزيز الرنتيسي بأنه كان يمازح أولاده، ويلعب الكرة أحيانًا مع حراسه ومعاونيه؛ ليزيل الرهبة عنهم، وأنه خرج يوما من الاعتقال وكانت تنظف البيت، فإذا بالتليفزيون يسقط وينكسر فحزنت؛ لأنه ليس لديهم مال لإحضار غيره، وتوقفت عند قيامها بتنظيف بيتها بنفسها..
وبعد أن جاء لاحظ حزنها فأخبرته فما كان منه إلا أن هون عليها قائلا: لكل شيء عمر، كيف علمته أمه احترام زوجته، وحسن تعامله مع أولاده، وتواضعه، ونضاله المستمر، وقيامه بحفظ القرآن الكريم كاملا أثناء اعتقاله مع الشيخ ياسين.

وهو ما تكرر الآن؛ حيث قام رئيس المجلس الوطني الفلسطيني الذي اعتقل منذ عامين في فلسطين؛ هو ورفاقه بحفظ القرآن كاملا.

كيف زرعت أمهات هؤلاء الرجال الحقيقيين، فيهم حقائق الحياة وبأننا بشر كرمنا الخالق، ولسنا أشياء تتوالد وتتناسل لتأكل وتلعب وتنام وتصحو؛ لتكرر ذلك حتى تموت.

لا للمتاهات ولاستنزاف العمر

كيف حمت هؤلاء النساء (الرائعات) أنفسهن من الغرق في متاهات ودوامات تستنزف حياة الملايين من النساء، وللأسف فهي في تصاعد رهيب.

فكم من زوجة أهدرت سنوات غالية من عمرها في معارك واهية مع حماتها أو مع زوجة أخيها، وأهدرت طاقاتها كإنسانة؛ لتثبت أنها كانت محقة في وضعها التوابل على الطعام، كما أخبرتني مؤخرًا زوجة شابة برغم اعتراض حماتها، وأخرى كانت تنتفض؛ لأن أخت زوجها أعلنت (بصفاقة) عدم إعجابها بالسيراميك الجديد الذي اشترته، واعتبرت ذلك بدءا لحرب لن تتهاون فيها.

وأخرى سارعت للإنترنت لترضي تعطشها للسماع لكلمات الغزل التي لا يقولها لها زوجها؛ وبالطبع لا أتهم كل النساء بذلك، ولكن أين نحن منهم جميعا..

بل أين نحن من أم الشهيد أحمد ياسين، الذي تعرض للإعاقة (الجسدية) مبكرا، ولكنه نجا من الإعاقة (النفسية) الإرادية، والتي (نختارها) جميعا من آن لآخر عندما نسمح لغباوات الحياة بافتراسنا؛ لتوقفنا طويلا أمام الصغائر لتقضي علينا تدريجيا.

كيف جعلت (الشموخ) هو ساقيه اللتين يسابق بهما الريح، و(العزة) طاقاته التي لا تنفد، (واليقين) بأن النصر آت لا ريب فيه هو الينبوع المتجدد الذي (يقهر) كل الأمراض التي توغلت في جسده النحيل.

كان بإمكان ياسين وأمه الاكتفاء بما قدمه لوطنه، وكان لديه المبرر الشرعي والإنساني أيضا، ولكنه أبى ذلك واختار أن (يهدي) كل البشر في كل زمان ومكان (الحقيقة) المؤكدة بأن الإعاقة الوحيدة تكمن في الاستسلام واحتكار الرثاء للنفس والعيش في إطار الضحية، (وتسول) التعاطف والاهتمام و.. و..

كيف زرعت (السماحة) بداخله، فقد روى ابنه أن شابا استوقف ياسين ليطلب مساعدة مالية؛ ليقيم مشروعا خاصا به، فوافق الشيخ، فهمس الابن لوالده: ولكنه من (فتح) التي تناصبك العداء، فسأله الشيخ: هل يصلي، فأجاب الابن: نعم، فمنحه المساعدة، ولم يقل لنفسه: الأموال التي لدي محدودة وسأدخرها لمن يعتنقون مبادئي.

أذوب خجلا
أثق الآن أنني ظلمت نفسي ظلما فادحا بالحديث عن الأمهات الفلسطينيات، فلن أقترب من إيفائهن أي جزء ضئيل من حقوقهن علينا، ولولا أنني لا أنحني سوى لربي، لانحنيت لهن امتنانا واحتراما، بل وأضيف أيضا وأعترف خجلا منهن.

فقد خفت على ابني لذهابه في مهمة صحفية لرفح، وسارعت بطمأنة نفسي وبصلاة ركعتي الحاجة ليحفظه الرحمن؛ مما يجعلني أذوب خجلا أمام هؤلاء الأمهات اللاتي (ينجبن) من أجل (تطهير) الأراضي المقدسة، ويتلاحمن مع بعضهن البعض بصور من النور لم تعرفها البشرية من قبل.

فهؤلاء الأمهات يتنفسن التدين (الحقيقي) والذكاء الدنيوي والوعي الهائل بأننا في الحياة (مجرد) عابري سبيل، وبأن حياة كل منا ستنتهي في لحظة، ولن يمكننا العودة لإصلاح أخطائنا أو لإعادة تربية أبنائنا، ولنتذكر الحديث الشريف (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول) وتضييع الأبناء يكون بإغراقهم في الأمور التافهة والحياة المادية، والاكتفاء بالحصول على القشور من أمور الدين، وبحصر الاهتمام بهم في حصولهم على الرعاية المادية والتعليمية والصحية (وتجاهل) أهمية تحصينهم من الانحناء لغير الخالق، ومن التهافت على الدنيا واعتبارها غاية، وتناسي أنها مجرد (معبر) إلى الآخرة، وأن ما نزرعه في الدنيا هو الذي (وحده) سينير لنا قبورنا، ويحدد لنا مصيرنا (الدائم) في الآخرة.

وهو ما يجب علينا جميعنا أن نذكره ونزرعه في عقول وقلوب أولادنا قبل فوات الأوان، ولا يتناقض ذلك مع استمتاعهم بما يتاح لهم من مباهج الحياة.

دعوة للاستفادة

جوع كلبك يتبعك، هذا ما يجب أن ننبه أولادنا أنهم ليسوا بكلاب، وأنهم لا يجب ألا يسمحوا لإحساسهم بالاحتياج لأي شيء في الكون بأن يكون سببا لامتهان كرامتهم.

وصدقوني فإن من يعتز بكرامته هو الرابح الحقيقي دينيا ودنيويا، ولنتأمل الشهيد الفلسطيني الذي أظهرته الفضائيات وهو يرفع يده بالشهادتين بعزة.. كيف تمت تربيته ومقارنته بالأعداد المخيفة من الشباب من الجنسين الذين ينهارون إثر تجارب حب فاشلة، ويسمحون للحياة بالتسرب بين أيديهم.. فلم تربيهم أمهاتهم كيف تكون حياتهم غالية عليهم ليتجاوزوا الخسائر بالتعلم منها، وادخار طاقاتهم لما يفيدهم بدلا من التباكي.

فالأمهات الفلسطينيات تحب أولادهن حبا ذكيا وحقيقيا، فتحرصن على أن يعيشوا بعزة وكرامة ليلاقوا الرحمن سبحانه وهو راض عنهم؛ مما يمنحهم السعادة (الحقيقة) في الدارين.

لنتعلم –جميعا- منهن الصلابة والاهتمام بما يفيدنا نحن وأولادنا وطرد التوافه، ولا أقصد بذلك أننا لن نتضايق من بعض الأمور المزعجة، ولكني أطالب ألا نسمح لها بإفساد حياتنا، ولا بحرماننا من رعاية أبنائنا بما يليق بنا وبهم، ولنتذكر وقوفنا أمام الخالق عز وجل ليسألنا عن أعمارنا كيف قضيناها وشبابنا كيف أمضيناه.

وأتمنى ألا توجد بيننا من تقول للرحمن حينئذ أنها لم تهتم بأبنائها؛ لأنها كانت مشغولة بما اشترته جارتها، أو أنها اعتبرت كثرة حرص أولادها أو تأخرهم الدراسي بأنه ابتلاء (فصبرت) عليه، ولم تتعامل معه على (جرس إنذار) لتضاعف اهتمامها بحب ووعي أكثر بأبنائها.

فلنزرع جميعا بداخل أبنائنا المعنى الحقيقي بأن الله أكبر، وهذا لا يعني الوقوف بصلابة أمام أعدائنا فقط؛ ولكن يتسع فيجعلهم يطلبون حاجاتهم بعزة نفس، ولا ينحنون أمام أي رغبات دنيوية، مما ينصرهم على الشهوات؛ لأنهم يشعرون بمراقبة الرحمن لهم دائما، ويتمتعون بالحياء من أن يراهم عز وجل وهم يعصونه، والرغبة الجارفة ليفوزوا بأن ينظر إليهم الرحمن، وهو راضٍ عنهم وضاحك إليهم، ليعيشوا في قوة متنامية ومتضاعفة فيتمتعون بالنجاح الباهر في كل مجالات الحياة؛ وبذا (فقط) تشعر الأم بأنها أدت مسئوليتها تجاه أولادها، وأنها (حاولت) شكر الخالق على نعمة الأمومة الرائعة.

وأكاد أسمع بعض الاعتراضات بأن الأم الفلسطينية ليست امرأة كاملة، وأنها لا بد أن تنشغل ببعض الأمور التي أشرت عليها، وإذا لم تفعل فإن هذا يعود لقسوة ظروفها التي فرضت عليها توجيه (كل) طاقاتها لإنقاذ كل ما يمكن إنقاذه.

وأرد بكل الود والاحترام لا يوجد إنسان كامل، وسنظلم أنفسنا ظلما فادحا إذا لم (نعترف) بصلابتها وباختيارها (المتجدد) لرفض الاستسلام برغم سهولته، واختيار الصمود ودفع فاتورته الفادحة.

وأهمس أنه ليس من الذكاء أن نبعثر أعمارنا في الأمور الأقل أهمية؛ لأننا لا نعاني من الابتلاءات التي تمتلئ بها حياة المرأة الفلسطينية.


http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1230414059212&pagename=Zone-Arabic-AdamEve%2FAEALayout