مشاركة من أحمد شطرات - محرقة غزة كما عاشها شهود العيان

 

آلة الحرب الصهيونية الغاشمة حولت منازل أهل غزة إلى أنقاض!!

- رجل إسعاف فلسطيني يروي وقائع الجريمة الصهيونية ضد المدنيين
- حالات استشهاد جماعي والمقاومة مستمرة في مواجهة العدو

حوار - إيمان يس

إذا كنت تسمع صوت انفجار كل عشر دقائق ثم لا تجد قطعة قماش لتحمل عليها مصابك فتضطر لحمله بيديك ليزيد ضغط يديك على جسده من آلامه، ثم لا تجد سيارةَ إسعافٍ لتحمله فيها؛ لأن الوقودَ قد نفد فتحمله على كتفيك لتثقب تأوهاته أذنيك، وتسيل دماؤه لتختلط بدموع عينيك، تواريها عنه لينطق لسانك بما ليس في قلبك لتطمئنه بأن الطريقَ قد اقترب وأنه بخير، وأنت لا تدري أتسرع خطواتك لعلَّ الله يكتب له النجاة أم تُبطئها كي لا تزيد آلامه في لحظاتٍ قد تكون هي الأخيرة؟، ثم تصل إلى المستشفى لتجدها تصرخ- مثل قلبك- من الأوجاع والآهات، فينفجر من حولك كلُّ شيء قبل أن تسمع صوت الانفجار التالي، ثم تلتفت لهذا الحبيب وترقب أنفاسه التي قاربت على التوقف وأنت تعلم أنه إنْ رَحَلَ فلن تستطيع دفنه؛ فإطلاق النار كثيف، كما أن المقبرة قد امتلأت، ونفد منها الأسمنت اللازم للبناء، وجال بصرُك ليسبق فكرك لتلتقط عيناك صورةً لثلاجاتِ الموتى وحولها الشهداء على الأرض ينتظرون دورهم، ثم لم تجد إلا أن تُغمض عينيك وترفع رأسك إلى السماء لتستمطر الرحمات ممن بيده ملكوت الأرض والسماوات.. إذا كان هذا حالك فاعلم أنك في غزة.

من هناك، من أرض الشهداء، أرض العزة، 'إخوان أون لاين' تحدث مع أبو هاني أحد رجال الإسعاف الذيم مازالوا أحياء، ليروي لنا مأساة اسرة فلسطينية قصفتها قوات الإحتلال، ويطوف معنا في جولة في شوارع غزة وبين بيوتها ورجالها، نسائها وأطفالها، لنسمع ونرى ما آل إليه حال مليون ونصف المليون مسلم.

أبو هاني أحد رجال الإسعاف الذين ما زالوا على قيد الحياة- فهم مستهدفون كباقي الطواقم الطبية إمعانًا في الجريمة- استطعنا أن نتحدَّث إليه في العشر دقائق التي تفصل بين الانفجارين!!، وعلى الرغم مما يُشاع عن الفئة التي تعيش دائمًا في قلبِ المعاناة من قسوةِ قلوبهم؛ حيث إنهم قد اعتادوا على الأمر، إلا أننا وجدنا أنفسنا أمام إنسانٍ بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ، فقد بدأ حديثه معنا قائلاً: أسأل الله ألا تكونوا معنا أبدًا في مثل هذه المصائب والأزمات التي نمرُّ بها؛ فما نحن فيه لا يُصدقه عقل، وإن شاء الله تمر هذه الأزمة وتنتهي، فأنا لا أحب أبدًا أن يشعر أي إنسانٍ بمثل ما نشعر به الآن، وأسأل الله أن تكونوا معنا ونحن منتصرون في بلادنا وكل بلاد المسلمين.. كان هذا ما يحمله قلب أبو هاني تجاه أمته التي لم يرَ منها مَن يقف لمساندته ولو بكلمة!!.

أما عمَّا تحمله لنا ذاكرته مما شاهده في الأربع وعشرين ساعةً الماضية قال: وصلتني إشارة بالتوجه إلى منزل الشهيد طلعت، ووصلنا إليه فوجدناه فوق سطح المنزل منذ أن استشهد متأثرًا بجراحه التي لم تُمكِّنه من النزول عن سطح المنزل، كما لم يمكِّن شدة القصف أيًّا من أهله من التقدم لإنقاذه، فظلَّ ملقًى على السطح خمسةَ عشرَ ساعةً حتى نال الشهادة، بعد أن نفدت ذخيرته التي كانت في رشاشه الآلي في محاولةٍ منه أن يصدَّ قوات صهيونية خاصة كانت تتقدَّم نحو منزله، وليس في هذا عجب!! ولكن ما عجبتُ له حقًّا ما كان من والده ووالدته عند وداعه، فقد استوقفني والده ليودعه قبل أن أخرج به من المنزل قائلاً: 'لحظة يا بُني، أريد أن أودع ابني'، فظننتُ أنه سيبكي وأن أمه ستصرخ، لكنه نَظَرَ إليه وقال: 'استودعك الله، ملتقانا الجنة بإذن الله، إن شاء الله يا بني الله يسهل عليك'.

وزادتني كلمات أمه دهشةً حيث قالت: 'يا بُني.. أنت طلبت الجنة، وإن شاء الله سنلتقي فيها، الله يسهل عليك'، هكذا تستقبل أسرة الشهيد ابنهم الملقى على سطح المنزل جريحًا 15 ساعةً حتى لَقِيَ ربه.

استشهاد جماعي
وعن أشد المواقف إيلامًا يقول أبو هاني: أن تشاهدي أطفالاً خمسةً أو سبعةً من أسرة واحدة وقد أصابهم صاروخ فتنوعت جراحهم، فيفقد أحدهم قدميه وهو يردد الشهادة، ويغرق الآخر في دماءٍ تعلوه وتفترش الأرض من تحته، وتتناثر حولهم أجزاء بشرية لثالث قد نال الشهادة، وأكبر قطعة فيه بحجم حبة البطاطس.

ويتابع أبو هاني: توجهتُ لتلبية نداء استغاثة من منزل عائلة أبو جرهوم، وما أن دخلتُ حتى وجدت 4 بناتٍ صغيرات؛ أكبرهن لا تتجاوز الخامسة من عمرها، كُنَّ في حالةٍ حرجةٍ، ونُقلن إلى المستشفى جميعًا، لكن الطواقم الطبية استطاعت أن تُجريَ لهنَّ اللازم، وحالتهن الآن في تحسنٍ والحمد لله.

ويحاول أبو هاني أن يخفيَ الغصةَ في حلقه وهو يقول: ماذا تفعلين عندما تُشاهدين أختَين قصفهما صاروخ وهما تخبزان، فاستشهدتا من فورهما وإحداهما تناول الأخرى العجين كي تُدخله الفرن!!.

ومن عزةِ الرجال إلى حياءِ النساء، حدثنا أبو هاني قائلاً: ذهبتُ لإسعاف فتاةٍ وقفت تُراقب من نافذةِ منزلها أخاها المقاوم الذي يقف على ناصيةِ الشارع، وفجأةً سقطت قذيفة صاروخية على المجاهد بترت ساقه، وأصابت أخته بشظايا فاستشهدت، لكنها قبل أن تنال الشهادة- وهي في سكراتِ الموت- شعرت بوجودنا حولها، فاستجمعت قواها لتركز بصرها على غطاءِ رأسها وتنظر إلى أمها وتئن، وكأنها تطلب منها أن تُغطيَ شعرها حتى لا نراها!.

وتابعنا جولتنا في جباليا مع رجل الإسعاف أبو هاني لنتوقف عند مشهدٍ يراه كثيرًا ويتكرَّر اليوم مع الشهيد خليل عز الدين الذي جلس ليرتاح قليلاً تحت إحدى الأشجار فأصابته قذيفة صاروخية بترت نصفه السفلي، لكن هذا لم يمنعه من أن يرفع إصبع السبابة عاليًا لتكون الشهادة آخر ما تلفظه أنفاسه!.

ولم يكن علي أحسن حالاً من خليل الذي أُصيب في قصفٍ صاروخي لطائرات الاستطلاع فشبَّت النار في جسده وأكلت جسده، حتى إن طاقم الإسعاف لم يستطع الاقتراب منه من شدةِ النيران، فأخذنا نُكبِّر بصوتٍ عالٍ حتى خمدت النيران، واستطعنا الوصول له لننقله إلى المستشفى، لكنه استُشهد رحمة الله عليه.

ويتابع أبو هاني: 'أيضًا الشاب محمد الذي حملناه إلى المستشفى مبتورَ الأطراف تمامًا وبطنه قد بُقرت من شدة القذيفة التي أصابته، وأحدثت الشظايا في جسده 50 فتحةً، ولم تترك له إلا قلبًا ينبض ولسانًا يذكر الله، حتى إن الأطباءَ وقفوا يتأملونه أكثر من ساعتين وهم عاجزون عن إنقاذه، لكنه هو لم يعجز- رغم مصابه- أن يردد الشهادتين وسورة الفاتحة، وكأنَّ رزقه من الدعاء لم ينتهِ بعد، فأمضى هاتين الساعتين بين يدي ربه حتى ارتقت روحه زكيةً إلى بارئها وقضى شهيدًا.

وبغصةٍ أخرى كتمها أبو هاني ليتابع حديثه قال: لا أدري ما أقول لكِ أكثر من هذا، فهل هناك أصعب على النفس البشرية من أن تكون اثنتان تجلسان بجوارِ بعضكما أو تسيران في الشارع في طريقٍ واحد، وفجأةً تجدين نفسك وحدك.. فأين تذهبين؟! ولماذا تُكملين الطريق أو الحياة؟!.

وتابع: هذا المشهد يتكرَّر كثيرًا؛ فهذه أم أحمد كانت تحتضنه وهي تراجع له دروسه فجاء الصاروخ ليفرقهما، وتلك أم عبد الله جلست تتابع مع أسرتها ما يحدث على فضائية الأقصى لتجد نفسها وأسرتها جزءًا من المشاهد التي كانت تراها وتبكي لها، فمَن اليوم سيبكي أُمَّ عبد الله؟! وكم سيظل بعدها؟!.

العجز في المستشفيات
وعن العجز في المستشفيات وفي إمكاناتِ العلاج، قال أبو هاني: نريد أن نستر عوراتِ موتانا، أن نحفظ لهم كرامتهم وخصوصيتهم؛ فقد نُقصِّر في حقوق الأحياء أو نعجز عن إنقاذِ المصابين، لكن أن يصل بنا الحال إلى ألا نجد أكياسًا لنضع فيها الموتى أو ثلاجاتٍ أو أكفانًا، وأن نعجز عن أن نوصلهم لمثواهم الأخير.. فهذا ما لا يتحمله بشر!!.

ويؤكد أبو هاني أن هناك عجزًا كبيرًا في حجم الكادر الطبي، وفي الأدوات والأجهزة والمعدات، يزيد من ذلك العجز نوع الأسلحة التي يستخدمها العدو؛ مما يجعل الإصابات غايةً في الخطر بما يفوق كثيرًا إمكانات شعبٍ أعزل محاصر؛ فاليوم فقط هناك أكثر من 200 حالة تحتاج إلى السفر فورًا إلى مصر أو إلى أي مكانٍ آخر للعلاج.. هل تصدقين أننا نضع مريضين على سريرٍ واحد؛ لأننا لا نستطيع أن نضعه على الأرض في هذا البرد؟!!، وهناك أيضًا مَن يتلقى العلاج في بيته؟!.

وانتهت هدنة العشر دقائق ليبدأ القصف من جديد، ورحل عنا أبو هاني ولسانه يلهج بالدعاء لأمته قائلاً: 'أسال الله- عزَّ وجل- ألا يرى أي شعبٍ من الشعوب مثل ما يراه الشعب الفلسطيني، ولا نتمنَّى إلا الخير لجميعِ الأمة الإسلامية والشعب المسلم، وإن شاء الله لا يُعاني أيٌّ منهم مما نُعانيه نحن الآن، وإذا كانت هذه اللحظات تحمل خيرًا فليجعل لفلسطين نصيبًا منه، وإن كانت تحمل شرًّا فليبعده عنا وعن أمتنا'.

كما لم ينسَ أيضًا أن يدعوَ لأسرته التي تُودعه كل يومٍ منذ عشر سنوات- هي مدة عمله كرجل إسعاف- وتمر عليها 36 أو 48 ساعةً وهي لا تعلم هل سيدق ربُّ هذه الأسرة الباب ثانيةً أم أنَّ وداعه هذه المرة كان الأخير؟.

انقطع الاتصال بأبي هاني قبل أن نشكره على دعائه لأمته التي لم يُحرِّك أيٌّ منها ساكنًا، وقبل أن نخبره بأنه مسح عن مخيلتنا صورةَ القسوة التي كنا نظن أنها لا بد أن تترك بصماتها على شخصيةِ كلِّ مَن يعيش آلامًا ومعاناة يومية.

لكننا تابعنا جولتنا في جباليا الصمود- كما يطلقون عليها- لتحدثنا أم حسين لتروي لنا قصة العريس الذي زُفَّ مرتين في أسبوعٍ واحد، كانت أولاهما يوم الجمعة الماضي عندما حضر الجميع عرسه وهنَّأه وبارك له، وقبل أن يتمَّ العرس يومه السابع خرج العريس مجاهدًا لصدِّ العدوان، فأراد الله أن يُزفَّ مرةً أخرى، لكنها إلى الحور العين، أما عروسه فلم تزد عن قولها: 'حسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله على كل حال'.

تركنا أم حسين متوجهين إلى عرسٍ آخر أقامته عائلة ثلاثة شهداء؛ فقد استشهد محمد بالأمس، وغبطاه أخواه أحمد وخالد وأبيا إلا أن يحلقا به اليوم، وأقامت العائلة عرسها لشهدائها الثلاث؛ كانت أمه تجلس وبجوارها أخواته ونساء العائلة، وقد ارتسمت الابتسامة على وجوه الجميع وتعالت الأصوات بالتهنئة، لكن هذا لم يرق لأبناء صهيون؛ فقد أشفقوا عليهم من الشوق لأحبائهم، فأرسلوا بقذيفةٍ إلى عُرس الشهادة ليلحق باقي أفراد الأسرة بمَن سبق.