معان جديدة لليلة القدر

 
 بسم الله الرحمن الرحيم
 

حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) الـدخـان

هذه الآيات، تفسر معنىً لليلة القدر، هو: ليلة القدر هي ليلة نزول القرآن. والقرآن فيه تبيان لكل شيء، وتوضيح للحلال والحرام، والصحيح والفاسد، وتوضيح للحقائق الشرعية، وتحديد لجميع القيم الغيبية والمفاهيم والتعاليم السماوية.


فملخص معنى هذه الآيات: إننا في حالة الإنذار، وفي حالة إرسال الرسل، وفي حالة الرحمة من الله، أنزلنا القرآن الكريم، في الليلة المباركة. فليلة القدر، وهي ليلة مباركة. في الحقيقة ليلة توضيح أبعاد كل شيء. ليلة نزول القرآن، أو بالتعبير المعاصر، ليلة الدستور. ولذلك، فعندما يحتفل المسلمون بليلة القدر، فقد تحتفل الأمة بذكريات أعز ليلة من ليالي تاريخها، ليلة نزل فيها القرآن الكريم، وحُدّد للأمة كل شيء، واتضح له الطريق.


وعندما نحتفل بهذه الليلة، ففي الحقيقة، نجدد عهدنا بهذه الليلة. ونضع أمامنا صوراً جديدة عن نزول القرآن، لكي نحاسب أنفسنا للماضي، ونأخذ خطاً وتصميماً للمستقبل.


ولكن في الروايات الواردة عن رسول الله
أنّ ليلة القدر باقية في هذه الأمة حتى القيامة. ومعنى هذه الأحاديث أنّ ليلة القدر لها معنى آخر، غير معنى نزول القرآن. القرآن أُنزل في ليلة القدر، ولكن هناك شيء آخر أيضاً في هذه الليلة المباركة.
 

أعتقد أنّ معنى ليلة القدر، يرتبط الى حد بعيد بمفهوم الصيام في شهر رمضان. فإذا لاحظنا أنّ الصيام تحضير للإنسان الصائم، حيث أنه في الدرجة الأولى يجعل الحجب مرتفعة أمام عيون عقله. فيجعله يرى، ويفكر، ويتعلم، ويفهم بصورة أكثر من الأيام الذي يُكثر فيه الأكل. ومن ناحية ثانية، الصيام يجعل الإنسان متحسساً بآلام الآخرين، وهكذا يجعل عاطفته أرهف وأكثر إدراكاً وشمولاً. ومن ناحية ثالثة، الصيام يكوّن نوعاً من التدريب والصمود في نفس الإنسان، حيث أنه يقف أمام مشتهياته، وأمام المغريات، وأمام الصعوبات، وبالتالي يتزود بالصبر. وللصبر مع الصيام علاقة طويلة. والقرآن الكريم في بعض الآيات يكني عن الصيام بالصبر. فيقول في الآية الكريمة: (( اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ)) (البقرة:153). فالصبر مفهومه في الأحاديث هو الصيام.
 

وإذا لاحظنا، أنّ الصيام يعطي للإنسان الصائم هذه الميزات الثلاثة: فهم أكثر، وتحسس أكثر، وصبر أكثر. وهذه العناصر الثلاثة هي في الحقيقة، وسائل لاتخاذ الإنسان، تصميماً لمستقبله، ولتقرير مصيره. فالإنسان الذي يصوم، وخلال صومه يرى رؤية أوضح، ويتحسس بآلام مجتمعه بصورة أكثر، ويتزود بالصبر لمتابعة الطريق. فهذا الإنسان هو الذي يتمكن من اتخاذ تصميم ووضع منهاج لمستقبله، يقرر مصيره من خلال هذا التصميم.
 

فإذاً، شهر رمضان فترة التدريب الذي يقرر مصير الإنسان. ومعنى ذلك، أنّ مصير الإنسان خلال السنة القادمة، يتقرر حسب التخطيط الذي يوضع في شهر رمضان، في قلب المؤمن، وفي الدرجة التي يصل إليها المؤمن. ومعنى ذلك، أنّ شهر رمضان فترة التدريب. وبالنتيجة، فأيام القدر حينما يبلغ الإنسان في هذه الفترة التدريبية درجة كاملة. وهذه الدرجة، بطبيعة الحال، يصل إليها الإنسان في العشر الأخير عند نهاية شهر رمضان. ولذلك، فهناك كثير من الروايات تؤكد أنّ ليلة القدر موجودة في إحدى الليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان. وفي بعض الروايات، أنّ لكل إنسان ليلة قدر، تختلف عن ليلة إنسان آخر. وهذه المعاني تنطبق تماماً على المفهوم الذي اكتسبنا من العلاقة بين ليلة القدر وبين الصيام.
 

وهناك معنى آخر، يرتبط بمفهوم الدعاء، فإذا لاحظنا آيات الصيام في شهر رمضان، نجد أنّ القرآن الكريم يجعل آية الدعاء ضمن آيات الصيام: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ)) (البقرة:186). هذه الآية في وسط آيات الصيام. فهناك تظهر علاقة واضحة بين الدعاء واستجابة الدعاء، وبين الصيام.
 

ومن الطبيعي أنّ الإنسان الذي يرى رؤية أوضح، ويشعر ويتحسس إحساساً أكثر، وبالتالي عقله، وقلبه، يتنوران بنور الإيمان، فهو أقرب الى الله، ودعاؤه مستجاب. ولا شك أنّ الدعاء له تأثير كبير في مصير الإنسان، وفي تقرير هذا المصير.
 

فإذاً، شهر رمضان فترة لاستجابة الدعاء. والدعاء في هذه الحالة، حالة صفاء القلب، حالة ابتعاد الإنسان عن الأحقاد، حالة رؤية الإنسان، حالة تحسس الإنسان، حالة صبر الإنسان. في هذه الحالات، شروط الدعاء تتوفر، ودعاء الإنسان يُستجاب. وبالتالي، شهر رمضاننا يؤثر في مصيرنا. وهذا المعنى أيضاً، ينطبق على المعنى الثاني، باعتبار أنّ وصول الإنسان درجة عالية من مقام استجابة دعائه يكون عادة في العشر الأخيرة، حيث مرّت عليه فترة طويلة من الصيام. وهكذا، نصل الى بعض معانٍ جديدة لليلة القدر، مستمرة في هذه الأمة. ويمكن أن يكون لليلة القدر معانٍ أخرى، وعلمها عند الله.

 *****************************

سبب تسميتها بليلة القدر

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى
أولا : سميت ليلة القدر من القدر وهو الشرف ...فكما تقول فلان ذو قدر عظيم ، أي ذو شرف .
ثانيا : أنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة ، فيكتب فيها ما سيجري في ذلك العام ، وهذا من حكمة الله عزوجل وبيان إتقان صنعه وخلقه.
ثالثا : وقيل لأن للعبادة فيها قدر عظيم لقول النبي
( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه.
 

*****************************

علامات ليلة القدر

الأولى: أن تكون لا حارة ولا باردة.
الثانية: أن تكون وضيئة مضيئة.
الثالثة: كثرة الملائكة في ليلة القدر.
الرابعة: أن الشمس تطلع في صبيحتها من غير شعاع.

 

*****************************

فضائل ليلة القدر

- أنها ليلة أنزل الله فيها القرآن قال تعالى (( إنا أنزلناه في ليلة القدر )).
- أنها ليلة مباركة قال تعالى  (( إنا أنزلناه في ليلة مباركة )).
- يكتب الله تعالى فيها الآجال والأرزاق خلال العام، قال تعالى (( فيها يفرق كل أمر حكيم )).
- فضل العبادة فيها عن غيرها من الليالي ، قال تعالى (( ليلة القدر خير من ألف شهر)).
- تنزل الملائكة فيها إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة والمغفرة، قال تعالى (( تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر )).
- ليلة خالية من الشر والأذى وتكثر فيها الطاعة وأعمال الخير والبر ، وتكثر فيها السلامة من العذاب ولا يخلص 
  الشيطان فيها إلى ما كان يخلص في غيرها فهي سلام كلها، قال تعالى (( سلام هي حتى مطلع الفجر )).
- فيها غفران للذنوب لمن قامها واحتسب في ذلك :الأجر عند الله عز وجل ، قال
(من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) - متفق عليه.
 

*****************************

وفي الختام

احرص على قيام العشر الأواخر من رمضان، ولو أن تضطر الى تأجيل الأعمال الدنيوية، فلعلك تحظى بليلة القدر، فإن قيامك فيها تجارة عظيمة لا تعوض.

* * *